كنت جنيناً فى الثرى، شتاًّ فى الصخور والرمال، مشيجا بالحديد والنحاس
ومختلف المعادن، فبعث الله العمال يبحثون عنى فى الأرض، فأحاثوها، واستخرجونى بين
أوشاب الأحجار، ثم حملوها إلى حيث ذرّوها،
فأزالوا زيف الجواهر عنى، وأظهرونى نقياً مصفًّى، وصاغونى سبائك، صُهِرَت فى أوعية
على تنُّور مسجور وأضافوا لى قليلا من مصهور النحاس، ليكسبنى صلابة، وأفرغونى فى
السِّكة فظهرت كما ترانى، : مستديراً
خلاَّباً، أصفر رناناً، مشوفاً وهاجاً.
يخطف الأبصار بريقى، ويهز القلوب منظرى، وتحف بى أشور جميلة، وتزين إحدى صفحتى صورة المليك المُفدَّى،
وإسمه الكريم، وعلى وجهى الثانى ترى رقم العام الذى ضُرِبْت فيه، وإسم المملكة
وقيمتى.
وليس من شيمتى أن أستقر فى يد، أو أقيم فى
بلد. فطوراً أتلألأ فى يد الوزير، وطوراً آخر ألمع بين أصابع الخفير، ويوماً
يحتوينى كوخ الفلاح، ويوما آخر تضمنى خِزانة التاجر، ولكن العزيز – فى رأى كثير
منكم – من ملكنى، والذليل من حُرمنى. ولقد أجمع الناس على حبى وخطبوا وُدى وقربى،
وتهافتوا على طلبى، فأصبحت فتنة العالمين : روّعت فئة منهم فى مضاجعهم، وسُقْت
الإجرام والغش لكثير منهم،، وأرَّثت الحقد
فى الصدور، وأغريت بالقتل واجتراح الشرور.
وساعدت مرضى النفوس على إنتهاك المحارم، وزينت للص إرتكاب الجرائم،. وسوَّلت للمستخدم أن يبيع ذمته، وللقائد أن يخون أمته،
وللتاجر أن يُدَلِّس فى بضاعته. وكم جعلت من العلماء فسقة فجرة، يموهون فى الدين،
ويختلقون عليه الأحكام، ومن القضاة طواغى
أضلهم الله على علم، فاستحبوا العمى على الهدى، واستبدلوا بالعدل جوراً،
واشتروا بالحق باطلا. ومن الكتاب طغاماً غَدَرَة : يحسنون القبيح، ويضلِّلون
الأفهام، وكم إستعبدت أحراراً، واسترقَقْت أعناقاً، وكنت مع ذلك رحمة للعالمين :
فإن الناس بفضلى يرفلُون فى برود النِّعم، ويجرُون ذلاذل الهناءة، ويرتعون فى زينة
الله التى أخرج لعباده، والطيبات من الرزق، ويتمتعون بما تشتهى الأنفس، وتلذ
الأعين. وإن إنساناً يعيش×تحت سمائى، ويرتع فى رياضى، لا تُسفُّ نفسه للنذالة، ويأبىَ إلا الكرامة، فكم وفَرت
أعراضاً، وزوَّدْت بالعفة نفوساً، فعاف الدنس، وتصوّنت من النقيصة. وفى طاقة من
يملكنى أن يجمع الناس على حبه، ويؤلفهم على إجلاله وتوقيره، إذا سخابى عليهم، أو
أنفقنى فى جلب الخير لهم، ودرْ الضر عنهم. وقد أكون زُلفى إلى الله، ومدّخراً
للحسنات، ومكفراً للسيئات، إذا طابت النفس بإنفاقى، فى تخفيف الويلات، أو مستور
الصدقات، أو فى خير المشروعات، كإنشاء المدارس والمستشفيات، والملاجىء والمصحّات.
وكائن ترى من مريض رزأه المرض وضعضعه، فأطال ليله، وأمرَّ عيشه، وطيّر الرقاد من
عينيه، حتى تشعَّبت الهموم، وتقسَّمته الغموم، فدعا بإسمى نطس الأطباء، واستحضر بقوتى مهرَة الحكماء،
فَسرَّوْا همه، وأجلَوا كربه، وألبسوه جدة العافية، فانتعش وفرح، وابتهج واستبشر.
أنا معين الطالب على إدمان الدرس والتهذيب،
ومساعد العلماء على مداومة البحث والتنقيب، بى تكون السعادة، وتتأنى السيادة،
وتُغْسَل الإهانات، وتُغفَر الزلات. وبى تُلِين الحديد، وتَفْعل ما تريد، وتُخْصِب
×قرائح الشعراء وتُنَظِّم دُرَر البلغاء،
وقديما كنت ذهب المعز، أذل ّبى الأعناق، وأخضع الرقاب وأخرس الألسنة، وكمّم
الأفواه.
ولقد تباين الناس فى الحصول على، والنظر
إلىَّ، فمنهم من لا يرانى إلا بكدِّ اليمين، وعرق الجبين، وينفقنى فى إشباع بطون
طاوية، وستر أجسام عارية، ومنهم من يرانى أفيض بين يديه من حيث لا يحتسب، فيبذرنى
بذرا، ×للحصول على شهرة، أو كسب جاه، أو يرسلنى
عطاء يشترى به حمدا وثناء. ومنهم من يعيدنى وإخوتى سيرتنا الأولى. فيرجعنا إلى بطن
أمنا، حذر العيون أن تلحظنا، والآذان أن تسمع رنيننا، ولا هَمَّ له إلا أن يكثر
عديدنا، ويمتع نفسه برؤيتنا، حتى يودعنا بحسرة. ويخلفه وارثوه من بعده، فيبعثوننا
من قبورنا، ويتصرفون فينا، ولله فى خلقه شئون.