فصل من (رسالة عن السودان) تأليف الرئيس (محمد نجيب)


(.. يعتب علينا إخواننا السودانيون لأخطاء تقع في
بعضها بحسن نية؛ وفي البعض إهمالاً؛ وهم إن غفروا الأولى؛ فهم يتألمون من الثانية؛
خصوصاً فيما يتعلق بحقوق المواطنين أو بالمسائل الوطنية؛ وتدخل في ذلك الظاهرة
النفسية التي تجسم الأخطاء إن وقعت من شخص تربطنا به القرابة أو الوطنية؛ لاسيما
ونحن في وقت يوجب الإنتباه لكل صغيرة وكبيرة.

.. وسأذكر فيما يلي
بعض هذه الأخطاء على سبيل المثال:

أولاً: –قبل كل شئ- يأخذون علينا جهلنا بأمور
السودان من لغة ودين ومدنية وجغرافيا وتاريخ وإجتماع إلى أخره؛ مستشهدين بأمثلة
يخجل الإنسان منها؛ في كثير من الأحيان؛ بينما يعرف السودانيون أننا ملمون بالكثير
من شئون البلاد العربية الأخرى؛ بل نعرف عن أوروبا وأمريكا أكثر مما نعرف عن
السودان.

.. وإني أعتقد بأن من أهم أسباب هذا الجهل النقص
الفاضح في مناهج التعليم عن جغرافية السودان وتاريخه وأحواله؛ يضاف إلى ذلك إهمال
صحافتنا لهذه النواحي؛ كما أن منها إحجامنا عن زيارة السودان؛ إلا نادراً؛ وحتى من
يزوره منا؛ يعود فلا يتحدث عنه إلا غراراً؛ أو يقصر حديثه على التافه من أموره؛
ولا يتعرض لوصف البلاد أو الكتابة عنها؛ ومن ذلك أن إخواننا النوبيين منتشرون
بيننا في مصر؛ ولهم رطانات خاصة؛ فيظن المصريون أن جميع سكان السودان هم من هؤلاء
المواطنين.

.. ومن الأسباب المهمة تلك السياسة الخاطئة التي
جرت عليها مصر؛ والتي مازالت أثارها باقية إلى الآن؛ من نفي كل مغضوب عليه إلى
الصعيد؛ أو إلى السودان؛ فلا يتحدث هؤلاء المنفيون إذا عادوا؛ إلا عما لاقوا من
متاعب ومشاق؛ فيبالغون في تصوير السودان وما يزعمون فيه من أهوال خصوصاً أن
المواصلات في القرن الماضي كانت صعبة وبدائية؛ وكثيراً ما كان أمثال هؤلاء لا
يعودون إلى مصر؛ إما لأن عودتها كانت غير مرغوب فيها؛ وإما لأن بعض المصريين كانوا
يستطيعون العيش في ربوع السودان فيسطوطنونه ولا يعودون منه؛ فيظن ذووهم أنهم هلكوا
هناك؛ ولا يفوتنا أن نذكر ماكان يتركه هؤلاء المبعدون في السودان من أسوأ الذكريات
بين السودانيين.

.. ثانياً: يعتب علينا السودانيون عدم إكتراثنا
بمن يزور مصر من أبنائهم؛ ومنهم كثيرون من الشخصيات البارزة والزعماء؛ قيأتون إلى
مصر ويعودون منها دون أن يشعر بوجودهم أحد.

.. ثالثاً: يأخذون علينا أننا لاندقق في إختيار من
نرسله إليهم من الموظفين وغيرهم ممن يعتبرون أنفسهم أجانب عن السودان؛ فلا
يعاملونهم إلا بالصلف والكبرياء؛ ولا يختلطون بهم أو يشاركونهم فيما يشارك فيه
المواطن مواطنه؛ بينما يشاركهم الإنجليز في شتى المناسبات مما كان أولى بالمصريين.

.. وأخيراً: يشكون مُر الشكوى من حاجتهم إلى
المكتبات العامة؛ وإلى المستشفيات؛ ومصر لا تحرك ساكناً في هذا المضمار.

.. ما نأخذه على
إخواننا السودانيين:

.. حرصاً على شعور إخواني السودانيين إستخلصت هذه
الإنتقادات  من أخ سوداني من العاملين لقصة
وادي النيل:

-يتسرع بعض إخواننا السودانيين في اللحكم على
أمورنا من مجرد ظواهرها؛ ويغالون أحياناً في المؤاخذة. ناسين أننا مثلهم مغلوبون
على أمرنا؛ وأن بيننا على الأقل كثيرين ممن يعرفون مواطن الضعف؛ فيعملون على
تلافيها بقدر ما تسمح به الظروف.

. مثال ذلك إهتمام المصريين بإظهار ما تكنه نفوسهم
تجاه إخوانهم السودانيين كلما سنحت الفرصة؛ كدلك المساعدات العديدة التي تسديها
مختلف الوزارات كالمعارف والدفاع والتجارة والتموين وغيرها من الهيئات المصرية
الأخرى كالغرف التجارية وبنك مصر من إلحاق إخواننا السودانيين في الوظائغ
المختلفة؛ ومن قبول الطلبة بالمجان وقبولهم ضباطاً وجنوداً بالجيش المصري؛ ومن
إسداء كل مساعدة ممكنة للسودانيين من موظفين وتجار وغيرهم.

-يعتقد قليلون من إخواننا من طلاب الوظائف وغيرها؛
إذا لم يفز الواحد منهم ببغيته أن السبب هو مجرد كونه سودانياً. بينما يكون السبب
عدم توفر المؤهلات مثلاً؛ مما لاشأن له بكون الطالب سودانياً أم مصرياً.

.. وكان الواجب –قبل كل شئ- أن يعتقد هؤلاء بأن لا
فارق بين سوداني ومصري؛ بل أن الجميع في الحقوق والواجبات سواء.

.. يبقى إخواننا السودانيون حكمهم على أخلاق
المصريين في الغالب على أساس خاطئ بحكم إقامتهم في العواصم الكبيرة؛ وعدم إختلاطهم
بصميم المصرييين في الأرياف؛ حيث توجد البيئة المشابهة لبيئة السودانيين؛ في
الأخلاق والعادات فيحكمون على جميع المصريون؛ بما يصادفونه من نقائض المدن
الكبيرة؛ وكثيراً ما تصدر هذه النقائض عن أجنبي؛ كل ما في الأمر أنه يلبس الطربوش
أو يتحدث بلهجة المصريين.

.. وعلى كل حال فكل ما ذكرت أو معظمه لايعلق عليه
بالسودان أو بمصر؛ ولكن أخشى أن يصبح دعاية خطرة؛ وأرجو أن يزول جميع ما يؤخذ على
المصريين أو السودانيين؛ وأن يعمل الجميع على أساس أنهم جميعاً إخوة؛ لا فارق بين
“بحراوي” أو “صعيدي” أو “سوداني” أو
“نوبي” أو “عربي” من أبناء وادي النيل.

.. هذه بعض وسائل
العلاج:

.. لقد عمل الإنجليز على فصل السودان عن مصر بكل
ما أوتوا من حول وقوة من يوم أن وطئت أقدامهم وادي النيل؛ وهو قد صحت نيتهم على
تنفيذ ذلك في أسرع وقت.

.. فهاهم يعملون سافرين ويلوحون للسودان بالحكم
الذاتي؛ أو الإستقلال عن مصر؛ وبالطبع لكل شعب في الوجود أن يرحب بالإستقلال؛
خصوصاً إذا لم يجد من مصلحته التعلق بأهداب قطر شقيق ضعيف لا يعيره بالاً ولا
يوليهه إهتماماً؛ ولقد وصلنا إلى المرحلة الخطرة؛ فلم يبق أمامنا سوى البحث عن
علاج سريع؛ حاسم.

.. ولا أرى علاجاً أنجح من تطبيق ذلك المبدأ الذي
يصرح به زعماؤنا مراراً وتكراراً؛ من أنه لا فارق بين مصري وسوداني؛ بل إن
للسوداني ما للمصري من حقوق وعليه ما عليه من واجبات؛ وهو علاج بسيط لا يكلفنا سوى
شئ من الحزم وصدق العزيمة؛ فالبلاد من منبع النيل إلى مصبه بلاد واحدة؛ وإلى الآن
لا توجد جنسيتان متميزنان عن بعضهما إحدهما مصرية والأخرى سودانية. “ولو أن
في رأس قائمة أعمال المجلس الإستشاري لشمال السودان مشروعاً لفصل الجنسية
السودانية سيصبح سيفاً مسلطاً على رأس كل سودانييقول بوحدة وادي النيل؛ حتى ولو لم
تعترف مصر بهذه الجنسية المصطنعة”.

.. إذن فلنعط السودانيين حقوقهم في وادي النيل
أولاً؛ ثم لنطالبهم بعد ذلك بما عليهم من واجبات.

. لنعطهم حقوقهم داخل هذا الجزء من وادي النيل؛
الممتد من البحر الأبيض المتوسط إلى فرس وأدندان “مصر” ولنتخذ لذلك نسبة
من عدد السكان وهي الثلث.

.. بل فلنعطهم ولو جزء من هذه النسبة في عضوية
البرلمان؛ وفي غيره من مرافقنا كالوزارات والمصالح الحكومية.

.. فلنعطهم مؤقتاً أي عدد يمثلهم في البرلمان؛ ولو
ننتخبهم بطريق غير مباشر كإنتخاب سودانيين ممن أصبحت إقامتهم بمصر بصفة مستمرة؛
“إذا خشينا تدخل الإنجليز؛ ولنجعل من بين الوزراء واحداً أو إثنين من
السودانيين؛ ومن المديرين نحو ذلك؛ وهكذا”.

.. ولو نعتبر ذلك
عربوناً أو مثلاً لتطبيق مبدأ المساواة في الحقوق.

.. ولنعين في وظائف الحكومة كل من تتوفر فيه
الشروط من السودانيين المتخرجين في معاهدنا؛ وهم الذين يحرم عليهم التوظف في
السودان؛ مما سيصبح سبباً مهماً في إعراض السودانيين عن معاهدنا.

. ولنكثر من إنشاء المعاهد العلمية المصرية في
السودان؛ ومثل ذلك المنشأت الصحية والإجتماعية الأخرى؛ مما يحتاج إليه السودانيين
أشد الإحتياج.

.. ولنشجع على إلتحاق
أكبر عدد من أبناء السودانيين بمعاهدنا العلمية.

.. ولنعمل على تحسين
الإذاعة والمواصلات لربط مصر بالسودان أدبياً ومادياً.

.. ولندرس أدق التفاصيل المتعلقة بالسودان؛ ونغرس
وحدة وادي النيل في نفس كل طفل حتى تصبح عقيدة راسخة يقدسها الجميع ويعملون على
تحقيقها… بعد ذلك؛ أنظروا إلى وادي النيل؛ ولاحظوا أثر هذا الحل الذي قد ينبري
له البعض بالنقد؛ فيقولون مثلاً أنه حل غير عملي؛ أو أنه سيعرضنا لتدخل الإنجليز؛
أو أنه لن يؤثر على ما يجري في السودان.

.. لكن ردي عليهم أن جربوا هذا الحل عملياً؛ ثم
أنظروا إلى النتائج؛ فسيتبين لكم أن كل نقد ضده إنما هو وليد الضعف؛ وعدم الثقة
بالنفس؛ وسيتضح لكم أنه الحل العملي الوحيد في الوقت الحاضر.

.. جربوه فإن لم تنفع التجربة فلن نخسر شيئاً؛ وإلا
فليأت المعارضون بحل عملي آخر؛ وسنكون له أول المتبعين.

.. إننا إذا عملنا بهذا الحل أو بما يشبهه فسيقضي
هذا الحل على كل محاولة للتفرقة؛ وسيصبح سلاحاً ماضياً في أيدي إخواننا
السودانيين؛ يحاربون به تلك الفئة القليلة التي تجري وراء ما يمنيها به الإنجليز
من وراء الإنفصال عن مصر.

.. أما إذا لم نجد من الشجاعة والعزم ما نقوى به
على تنفيذ هذا؛ فنصيحتي لمصر أن تتنازل للسودانيين عن كل شئ لها في السودان؛ قبل
أن يدعي لإنجليز أنهم إستخلصوا للسودان حقوقه من مصر؛ وقبل أن يدَّعوا أنهم خلعوا
على السودان إستقلاله؛ بعد أن إستخلصوه من أيدي المصريين؛ فالقوم قد وطنوا العزم
على فصل السودان عن مصر في أسرع وقت مستطاع؛ وأنهم قد مهدوا لذلك واتخذوا له
العدة.

 من كتابي القادم “جبروت الطاغية وطغيان الحاشية”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top