العقرب والضفدع

 


من قمة التبة نهبط بحذر، السماء تبدو كخرقة
مبلولة، تجاهد في تنشيف نفسها من رطوبة الغيم، يتخللها من حين لحين شروق شمس هادئ.
إنها حقاً طبيعة تتمرد على ذاتها، تمرُد، لابد وأنه قد ولد هنا، جذوره من هنا، ومن
هنا إنتقلت فروعه إلى كل سيناء، تمرُّد يجعلني أدرك ما لا يمكن إدراكه بسهولة،
تمرُد يرُج الجسد، ويرعش الروح، وكأن لوجودي هنا طعم الولادة من جديد، وهل للحياة
طعم آخر غير أن نولد متنكرين ومتكررين، وفي عالم مثل هذا، لا يُمكن للحياة أن
تُعَاش وهماً، لا يمكن لها إلا أن تعاش صِدقاً، صدق التلامُس والإختلاط، حتى وإن
ملأني الفزع، أو كانت عين مرافقي هلعة، ومفتوحة باستمرار، عين بلا معنى، كُلما
نظرتني من وراء القناع كُلما أشعرتني بأنها تنظر نحوي بحسد، تتفرسني بغيظ، مالداعي؟!
لا أدري، ربما السر في ذلك، هذا الخليط البارد، الركامي، في زمن السلم المزعوم،
والذي تسلط على صاحبها منذ مدة طويلة، لكنها عين غبية، لو تفكر وتتبصر قليلاً،
ستجدني أنا الأخر صائراً إلى ما صار إليه صاحبها، ويمكن أكثر، فلما تستعجل أمري؟!
هل لأني لم أتساوي به بعد في طول توليفي على المكان؟! فتحسدني، أم هى الفطرة التي
خُلق عليها الكائن؟! والطبع غلاب، حيث يُحكى أنه ذات يوم قررت عقرب الرحيل من
مكانها، وموقعها الذي باتت تكرهه، وحياتها التي تظن هى وحدها أنها لا تستحقها،
فقررت أن ترحل إلى الجانب الآخر من النهر (قد يكون نهر النيل) لكنها حين وصلت طرف
النهر اكتشفت الحقيقة الغائبة منها (والتي تجاهلتها منذ خُلقت) ألا وهى، أنها تجهل
العوم، ووجدت ضالتها في ضفدع يقف على ضفة النهر، فاقتربت طالبة منه أن ينقلها إلى
الشاطئ الآخر من النهر، فاستقبل العقرب ذلك الطلب بكثير من الشك والإرتياب، مذكراً
العقرب بلدغاتها القاتلة، وسمها الزعاف، فحاججته بقولها أن هذا أمر غير وارد،
لأنها لو لدغته فهذا يعني ليس فقط موته، ولكنه يعني أيضاً موتها المحتم، لأنها لا
تعرف السباحة، ولن تجد ما يتلقاها إلا قاع النهر، ككل الضفادع، وبالفعل، وافق
الضفدع، وطأطأ رأسه لتتسلق فوق ظهره العقرب بالقرب من رأسه ومركز أعصابه وعقله، ثم
انطلق سابحاً، غير مكترث بوساوسه، أو بما تعلمه من تاريخ العلاقات بين العقارب
وبقية مخلوقات الغابة: يبدو أنه كان يبحث في إمكانية تغيير نظريات ثابتة منذ بدء
الخليقة!، المهم وصل الضفدع إلى وسط النهر، مستمعاً إلى أحلام العقرب، ووعودها
بتعاونهما المثمر في المرحلة المقبلة من تاريخهما الذي سوف يكون بداية لعهد جديد،
يتقاسمان فيه خيرات الطرف الآخر من النهر، وهى خيرات تعتقد العقرب، وأقنعت معها
الضفدع بأحقيتها فيه، وبدأ الضفدع في السباحة، وقد سيطرت على عقله أفكار بعثت فيه
الكثير من النشوة التي تراجع معها إحساسه الفطري بالقلق والتوجُس، تلك الأفكار
الجديدة التي يرى نفسه فيها متقاسماً الغنيمة مع العقرب التي دخلت هى الأخرى في
صراع مع طبيعتها التي فطرت عليها في مواجهة أحلام بمستقبل تعتقد هى وحدها أنها
جديرة به في الضفة الأخرى، ولكنه كان صراعاً محسوماً لصالح الفطرة، فبينما الضفدع
تسابق أفكاره وأحلامه سباحته في الماء، لم يشعُر إلا بلسعة ساخنة مؤلمة، فقد
انتصرت طبيعة العقرب على أي رهانات ثبت أنها خاسرة، حيث بدأ يسري سم العقرب في
أوصال الضفدع الذي خارت قواه، وبدأ في الغرق، ولم يتمكن إلا أن يسأل العقرب: لماذا؟!،
فتجيب العقرب، وهى تغرق هى الأخرى: إنها طبيعتي!، ويغرقان معاً في مياه النهر
العميقة!.

، في نهاية المشهد الضبابي، نغادر أنا وجامع الحطب الوادي المسكون بمخلوقات
النار والطين، وعند الصعود إلى القمة يباغتني رفيق رحلة التحطيب: ما رأيك في
حياتنا تلك؟!.

-وهل تسمي ما نحن فيه حياة؟!.

-وهل لها إسم آخر؟!.

، في لهاثي: نعم!.

، كبغل حرون: قل يا فالح!.

-لن تفهم!.

-منك نستفيد، يا عم الباشا!.

-لا، لست باشا، بل زميلك!.

-إذن قُل يا عم الزميل، ماذا تسمي حياتنا تلك؟!.

، بتقطع أنفاس: أولاً، حياتكم صارت حياتي منذ يوم قدومي، ثانياً، هي ليست
حياة بالمعنى المفهوم، بل صراع محموم من أجل البقاء، أي أنها حياة تشبه حياة
الحيوان في الغابة، الذي يعيش على فطرته وغرائزه، هل فهمت؟!.

، وكما توقعت، لا أتلق رداً، بل هروب لاهث، ينتهي به إلى داخل المطبخ
الصاجي، وأنا في ذيله، ملقياً عن صدري كومة الحطب الداكن، الخشن، وتاركاً ورائي
طقساً غير متسلط، وفي المبيت يعاجلني كبير المراقبين: حطََّّبت يا باشا؟!.

، بأنفاس مُتقطعة، خالعاً القناع والبيادة: نعم، حطَّبت، وتحطََّبت أيضاً!.

، ثم في تنمُر: إنها أشغال شاقة يا أخي، ولا ينقصها سوى تكسير الصخور!.

والمتعوس جامع الحطب؟! هل كان لطيفاً معك؟!.

،
ولأن التردد سمة: أه، نعم، مثله مثل العقرب!.

، يوسع من عينيه: يا ساتر، عقرب؟!.

، بابتسامة عريضة: عقرب؟!، أنا قلت عقرب؟!.

-نعم.

-لا، أقصد،،

، ثم بإشارة من يدي: نعم، نعم، أقصد ضفدع لطيف!.

، يضرب كبير المراقبين كفاً بكف، ثم ينصرف إلى الخارج، وهو يتمتم:لا حول
ولا قوة إلا بالله، شكلك هكذا لن تستمر طويلاً!.

، وفي ركن بجوار المصلى المكشوف الصغير المفروش بالحصر الداكنة، البالية،
المثبتة بقطع الصخور ينتحي بي جامع الحطب، ثم يحتضنني من وسطي بقوة، وهو ويقول:

آسف، كُنت ثقيل الظل معك، ولكن، لم أقصد إلا مُداعبتك!.


من مجموعتي القصصية “عريت جولدا”

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top