ضربت بجذورها في بطن الأرض؛ وأمام المرآة اللامعة حتى الصقل ذات الإطار الذهبي
العريض؛ العتيق؛ برسوماته البارزة؛ والمسندة إلى فرجة بين كوتين في الحائط؛ يأخذ
يعدل من بزته الميري؛ الكاكي؛ بنسريّ كتفيها اللامعين؛ الذهبيين؛ ومن الداخل صوت
العرب تنادي: أمجاد يا عرب أمجاد. وفي الإثر: ها نحارب؛ ها نحارب. ومن الخارج؛
هدير عربات عسكرية؛ مركبات مصفحة؛ دبابات؛ هتاف: بالروح؛ بالدم؛ نفديك يا جمال.
ولمعة حماس من عين أبي؛ وابتسامة نحيلة؛ وهو يغادر بخطوات سريعة؛ واثقة.
كانت المرآة قريبة من باب الشقة؛ وكان يحلو
لي الإنكماش تحتها ذليلاً؛ مدحوراً؛ كلما ضربتني أمي؛ إستعداداً للهرب من جديد إن
لمحت في عينيها جرعة شر زائدة؛ ولا أنسى ذلك اليوم الذي بدت فيه شمس الضّحى وهى
تميل؛ ثم تميل أكثر في سكون؛ قبل أن يدهمها المساء؛ ويوغل بشفق كابي؛ ويستتب
الليل؛ والناس في بيوتهم واجمون؛ ساهمون؛ لا يخرجون في النهار إلى أعمالهم؛ لا
يأوون في الليل إلى فراشهم؛ وتبقى مدينة الأسياد على غير عادتها؛ صامتة في النهار؛
صامتة في الليل أيضاً؛ ولكن أحداً لا ينم؛ حتى أنا الجن المصوَّر؛ كما كان يحلو
لأمي وجدتي أن ينعتاني بعدما اكتشفا معاً بأني ولد ملبوس بـ جن مصوّر؛ وهو أمر
كما ترون مهول؛ ومفزع؛ لأنِّي كنت ولد شقي جداً؛ عنيد؛ مشاكس؛ بل ومعجون بماء
العفاريت؛ كما أخبر عني الكل؛ ولا أتورع عن فعل أي شئ؛ حتى ولو مصيبة؛ وكانت أمي
بالطبع تضربني ضرباً ياما؛ مبرحاً؛ لا أدري له سبباً في حينه؛ ربما والله أعلم بعد أن ضربت
الرقم القياسي في الصعلكة؛ والصياعة؛ واللف على غير هدي؛ وهذا ليس بجديد؛ فقد كنت
كعادتي في ظلام الحارة؛ الممتدة كالأفعى أمام البيوت أبحث عن أقراني في العفرتة؛
والصعلكة؛ لنلعب المساكة؛ أو عسكر وحرامية؛ أو الثعلب فات فات؛ وفي ذيله سبع لفات؛
أو حبة ملح؛ أو نطة الإنجليز؛ أو حميده ولدت ولد؛ والأخيرة كنت أحبها كثيراً؛
لأنها على إسم خالتو حميدة التي كانت تنفحني الكثير من الحلوى والقروش كلما
زارتنا؛ وفيها يمسك كل منا بيد الآخر؛ ونصنع دائرة تلف؛ وتدور؛ وصوت غناءنا الحاد؛
الرفيع؛ يدور مع حركة أجسادنا في أغنية واحدة؛ لها مقطع واحد؛ يتكرر في دورة متصلة
لا تنقطع: حميده ولدت ولد / سمته عبد الصمد / سابته ع القنايا / خطفت راسه الحدايا
/ حد يا حد؛ يا بوز القرد / حميده ولدت ولد, ولهذا؛ ملأني الضيق لما لم أجد أحدا
من أترابي في العفرتة؛ فمررت على ولد وبنت في أخر الحارة؛ فأبقتني أمهما على مضض
لأمكث معهما؛ ونحن نداعب كبداية القطة البيضاء لميس تحت شجرة التوت طاعنة السن؛
التي تتوسط حوش المنزل العتيق؛ المكشوف؛ والواسع جداً؛ قبل أن تتقافز؛ وتشمشم على
أي فأر يوقعه حظه العاثر بين براثن مخالبها.
كانت صاحبة المنزل بالشعر المنفوش؛ والرداء
فوق الركبة عصبية في هذا اليوم؛ ومشغولةمع بعلها بالراديو الخشبي مكسور اليد؛ الذي
يقول: أسقطنا 131 طائرة للعدو فأقول للبنت بجواري: ياااه؛ أمال كان هاجم علينا كام؟.
المرأة تبتهج؛ وتصيح: أخويا ها يرجع؛ أخويا
ها يرجع؛ هزمنا إسرائيل؛ هزمنا إسرائيل. وهنا أجدها فرصة لإقامة احتفال صغير
بالنصر؛ ولكن المرأة تنهرني مع أول بادرة؛ ولا أدري لماذا؟. ألسنا منتصرين؟. بل
وتهدد بتسليمي لامنا الغولة؛ وبالتالي؛ صار لزاماً علىّ الحرمان من ثمار التوت بهز
الشجرة؛ أو حتى مجرد تسلق جذعها المائل؛ أو مطاردة القطة لميس؛ أو صنع قطار مع
الولد والبنت؛ بأن يمسك كل منا بذيل الآخر؛ ونحن نصفر؛ وترتفع الصفارة في الجو؛ ثم
يجري كل منا ليختفي في المساكة وراء الشجرة؛ أو وراء صندوق زجاجات الخمور الفارغة
في ركن الحوش؛ وما إن عدت ودخلت البيت حتى انهالت علىّ أمي بالضرب المبرح؛ فما
السبب يا ترى؟. هل لأنها لم تنتبه لخروجي؛ ولا لغيابي؛ فلما انتبهت أصابها الهلع؛
ولكن؛ عجيبة؛ هى ليست مرَّتي الأولى التي أتغيب فيها بلا إذن؛ وبلا عقاب؛ لأن أمي
كانت تعلم أن حدود عالمي السفلي هو الحارة لا أكثر؛ لا أتخطاها إلا في الحالات
النادرة إلى الحارات القريبة كالعطوف؛ وكفر الزغاري؛ والدراسة؛ والحسينية.
بكيت؛ وصحت مستنجداً بأمها التي أتت إلىّْ
على عكازها؛ تنتزعني من بين يديها؛ وهى تصرخ في ابنتها موبخة؛ ثم تستحلفها بالست
الطاهرة أن تتركني وشأني؛ وقتها؛ لم أكن أدري من هى الست الطاهرة؟. هل هى السيدة
زينب؛ الوحيدة من الأنبياء القادرة على شفاء جدتي من الوجع؟. أم هى مريم العزراء؛
البتول؛ التي ترفرف بروحها أحياناً فوق صليب سطح كنيسة حنين؛ فيعود البصر إلى بعض
العيون العمياء؛ وتدب الحركة في بعض السيقان الكسيحة؟. أذكر أني قلت لجدتي ذات
مرة: لماذا لا تكون أختي نبيَّه؟.
تضحك جدتي؛ وتقول: يا ستنا الطاهرة؛ هل فقدت
عقلك يا ولد؟ لا يوجد بين الأنبياء إمرأة واحدة.
إستغربت بشدة: كيف هذا؟. وبعد ذلك؛ صرت لا
أكترث.
أنفلت من حضن جدتي؛ فهى على أية حال؛ قد وهن
العظم منها؛ ولن تقو على حمايتي أكثر؛ لذا؛ كان لوذي بموقع المرآة ضرورة حياة؛
ذليلاً؛ مدحوراً؛ تنحدر الدموع من عيني؛ أمسحها بظهر كفي؛ وأمسح في صمت مخاطي في
طرف كمي؛ ولكن؛ ما الذي كان قد أصاب أمي يا ترى؟ لماذا ضربتني هكذا؛ هل كانت لا
قدر الله قد فقدت عقلها لوهلة وأصبحت مجنونة؛ كصاحبة الحوش؛ أو كذلك الرجل أشعث
الشعر الذي كان يسكن المنزل المسكون بالعفاريت في الزقاق المجاور لكتاب الشيخ
عصفور؛ وأخافه وأركض فزعاً لمجرد رؤيته؛ وكأنه ساحر في قدرته أن يحيلني إلى كلب؛
وعندما قلت لجدتي ذلك؛ أخذت تضحك بكركرة مخيفة وتضرب بعكازها الخشبي الأرض؛ وهى تكاد
تستلق على قفاها؛ ثم قالت لي: يا ستنا الطاهرة؛ ولماذا يحيلك يا ولدي إلى أي شئ
آخر؛ وقد سخطك الله منذ البداية قرد؟.
فأرد على جدتي بعفوية: لا يا جدتي؛ هل
نسيتي؟ أنا جن مصوَّر.
بابتسامه
نحيلة هذه المرة: وقرد أيضاً.
-قرد؟.
-نعم.
بخبث:
والجن يا جدتي؟.
-ماذا
به؟.
-قرد
أيضاً؟.
تضحك
جدتي بوقار هذه المرة؛ وكنت أظنها ستكرر وصلة الكركرة المخيفة: طبعاً.
-ولماذا
طبعاً يا جدتي؟.
-لأنك
وهو قردان.
بخبث
أشد: بماء العفاريت يا جدتي؛ أم بدون؟.
وفي
ثانية؛ وكما توقعت؛ تأخذ جدتي في الضحك بذات الكركرة المخيفة؛ وتضرب بعكازها الخشبي
الأرض؛ وهى تكاد تستلق على قفاها؛ وتردد في متوالية مرعبة: نعم؛ نعم؛ وأيضاً بماء
العفاريت؛ وأيضاً بماء العفاريت.
أذكر أن أمي أبداً لم تضربني بهذا الشكل؛ حتى
عندما كنت أتسبب بلا قصد في كسر كوب؛ أو إضاعة قروش؛ أو التبول في الفراش؛ أو حتى
مداعبة عضوي من تحت جلبابي.
إنتزعتني جدتي بصعوبة من بين يد أمي؛ وأنا
في غاية العجب لأنها ظلت تنتحب؛ وتولول؛ وللحق؛ كنت خائفاً منها؛ وخائفاً عليها؛
أبكي لأنها ضربتني؛ وأبكي أكثر لأنها تبكي.
أذكر أيضاً أن جدتي قالت لي وهى تنفحني
بيديها المتخشبتين قطعة من الحلوى؛ وتمسح دموعي ودموعها:لقد احتل الصهاينة سيناء
يا ولدي. لم أفهم وقتها ماذا تقصد بسيناء؛ والإحتلال؛ والصهاينة؟. وما هؤلاء
الصهاينة؟. هل هم مثلي من الجن المصوَّر؛ أم من القرود والكلاب؟. وما علاقة ذلك
بضربي؟. وما شأني أنا الجن المصوَّر بــ سيناء؛ والحرب؛ والإحتلال؛ والصهاينة؟.
أنا مجرد طفل يتلبسه جن مصوَّر؛ لا مارد؛ لكنها واصلت: أبوك يا إبني كما تعلم
ضابطاً بالجيش؛ وأمك تخشى عليه من ويلات الحرب. وعند ذلك؛ فهمت سر هلع أمي؛ وصار
يتملكني الفزع على مصير أبي؛ بل ومصيري؛ ومصير جني المصوَّر من بعده؛ يتملكني
الشرود؛ وتغالبني دموعي؛ حتى ضمتني جدتي إلى صدرها؛ ثم مدت يدها بقطعة حلوى أخرى؛
لكني رفضتها؛ وأنا أقول: بشرط؛ إحكي لي حدوتة.
تضحك جدتي بوقار؛ لا بكركرة؛ وتكشف عن لثة
خالية من الأسنان؛ ثم تحملني إلى أريكتها الخضراء؛ وهى تداعب مسبحتها الزرقاء؛
الطويلة؛ لا تقتنع جدتي بمسبحة أقل من تسعين حبة؛ وتترك المسابح الصغيرة للهواه؛
ثم تعقب:غالي والطلب رخيص. وعندما أطمئن لإجابة طلبي؛ أنتزع من يدها قطعة الحلوى؛
فتبتسم إبتسامة منزوية على غير عادتها؛ ربما بسبب الحرب؛ وبعد انتهاء حكاية الشاطر
حسن الحلوة بتفاصيلها تتمتم جدتي؛ وتقول: توته توته فرغت الحدوته؛ حلوه؛ أم ملتوته؟.
وعندما لا تتلق جدتي جواباً؛ تعلم أنني أكل رزاً مع الملائكة؛ وأنا لست كذلك؛ بل
لا زلت بين اليقظة والنوم؛ فتحملني إلى سريرها؛ وهى تقبلني؛ وتذرف دموعها الساخنة
على خدي البض؛ وبعد
أربعة أيام وفي حزن يعلن الزعيم أو الشاطر حسن كما صرت أطلق عليه وقتها نبأ
اعتزاله؛ فتقوم القيامة؛ ولا أدري لماذا؟. وعندما كبرت: أليس هو الرجل الذي أتى
بالهزيمة؟. بالأنوار المطفأة؟. بعنف الغارة؟. بصافرات الإنذار؟. بنداءات طف النور؟.
بالطلاء الأزرق على النوافذ؛ والشرفات؟. بالطلقات الكاشفة في سماء ليل القاهرة؛
التي كانت تثير فزعي وإخوتي من فوق السطوح؟. بدموع أمي؛ وجدتي؟. بذهولي؛ وأنا أجد
لزاماً عليّ أن أشاركهما وأخي البكاء؛ والنحيب؛ والولولة؛ دون أن أدري ما الأمر؛
وما سبب ضجة الحارة؛ وأن كثيراً جداً من الناس صارت تزحم الطرقات؛ رغم أن الليل
مظلم؛ يوشِك أن ينتصف؛ أمواج بشر تهيم على وجهها؛ تشعر باليتم؛ وبالضياع؛ زلزال
هائل يرج أرض ست الحسن؛ ويطرد الناس من البيوت؛ والشقوق؛ فتنطلق ملتاعة؛ تبكي؛
تصرخ؛ تلطم الخدود؛ تنوح كالأرامل؛ تلطخ بصوتها المهزوم كل الأشياء بالفجيعة؛
بالتفاهة: الشوارع؛ الطرقات؛ الأزقة؛ العطوف؛ الحارات؛ الأسواق؛ المدارس؛
المستشفيات؛ البيوت؛ العشش؛ الخيام؛ المآذن؛ القباب؛ الخرائب؛ أحواش المقابر تتسلق
كالجرذان: أعمدة الإنارة؛ النوافذ؛ المطلات؛ الشرفات؛ الأشجار؛ الجدران المهدمة؛
الخنادق المموهة بالخضرة؛ سواتر الرمال والحجارة. تصرخ من قلوبها: جمال؛ عد يا جمال.
جمال الذي كان قد تمثل لها بفعل الأكاذيب وبيع الوهم وغسيل الأدمغة كالشمعة
الوحيدة فى عاصفة ليل بلا نهاية؛ فتحولت إلى أكف تلتف حولها؛ تحميها؛ لينتصب
ضوؤها؛ يقاوم الريح؛ يبدد الظلمات؛ يشد عود شعب مسكين؛ لا يريد أن يتقبل هزيمتين: إنسحاب
الجيش؛ وانسحاب جمال؟. ومن يومها: من لا يسقى تربته الذاتية من نهر الإنتباه
واليقظة؛ فقد يتداعى جداره ويصبح مدفناً له. عدة كلمات تتعلق قرطاً لا ينزعه
الزمن؛ تصير إرثاً أحمله؛ أدمنه؛ ولا أشفى منه؛ وقد عاينت أخبار الإستنزاف؛ والعدو
يدك مدن القناة بضرب متصل لا يتوقف؛ فتتحول بور توفيق إلى أنقاض؛ مدينة خرائب
وأطلال؛ قذائف تصفر في كل مكان؛ دوي انفجارات وانهيارات طوال الليل والنهار؛ في
الإسماعيلية وبور سعيد والسويس؛ ومعها ينطلق صوت محمد حمام بكلمات الأبنودي: يا
بيوت السويس يا بيوت مدينتي / أستشهد تحتك وتعيشي إنتي. وتتوالى سحب الغبار؛ وتداعي
المباني؛ والحرائق؛ وتهشيم الزجاج؛ ومعها يسيل صراخ من بقى من الأحياء؛ ويعم إظلام
تام على طول الجبهة؛ وتزدحم القطارات وتختنق الأتوبيسات؛ وتمتلئ اللوريات
والتاكسيات بألوف الأسر المصرية؛ تفر من جحيم خط القناة إلى المدن؛ والقرى
البعيدة؛ يرقدون تحت برد الشتاء؛ في الدروب؛ والساحات؛ والأقبية؛ والمساجد؛
والكنائس؛ والأديرة؛ إذن؛ لقد اشتدت حرب الإستزاف في عامها الثاني؛ ليحل مكان
جنِّي المصوَّر قط أليف يمشي بجانب الحيط؛ ولا يموء إلا قليلاً؛ قليلاً جداً.