فرقع لوز

تمر بنا
العربة عبر منعطف صغير؛ تخلف وراءنا مروج وجسر بأسفلت ساخن؛ أطل برأسي لأبحث عن
شجرة التوت هائلة الضخامة؛ أشم رائحتها العتيقة؛ فأدرك بأنها لحظات؛ وأرى جدي
وجدتي والدار الكبيرة التي تبتلعها شجرة التوت بأذرعتها الكبيرة.

يجئ
جدي بوجه عابث؛ رزين؛
مردوم
بحفر قديمة؛ نصف مردومه من آثار هجوم جدري قديم؛ فاشل؛ تنبت يها شعيرات دقن قليلة؛
متباعدة؛ ولكنها كأشجار السنط البرية ناشزة؛ مسنونة؛
وكان أكثر ما يثيرني ويدغدغ كل حواسي؛ طرف
عباءة رمادية؛ لاصقة بطرف جلباب جدي الأسود؛ الموبر؛ فيصدر حفيف حميم إلى قلبي؛
ورائحة التوته تملأ المكان؛ في الوقت الذي يلتف فيه الفلاحون حول التوتة؛ مهللين
بنا في احتفالية؛ وتمرق بعض مواشي في تبختر؛ فتدوس حوافرها ورق التوت اليابس؛ وقد
بدأ خوارها يعلو؛ وأنا أتلصص من وراء عباءة جدي إلى عيون صبية مصوبة إليّْ.

جدي
يهش الصبية في أنفة بعصاه التي يسميها الحكمدار؛ يشدنا إلى عقر الدار؛ تجئ ساعة
العصاري فأختلس خلوة؛ وأخرج من باب الدار برتاجها الخشبي الضخم؛ أبحث عن الصبية؛
وهم مختبئون وراء التوتة في تربص لصيحات جدي وجدتي.

ألملم
حّب التوت من فوق الأرض لأعطيه للصبية المعلقين في أذرع التوتة؛ فيفرون إلى
ديارهم؛ وقد انفلتت منهم حبات التوت؛ واختلطت بتراب وروث؛ لم يعد يجمعونه من وقت
لآخر لخبيز الأفران.

تأت
العشية وتبتلع معها كل صوت؛ وتنفلت همهمات أحاديث من أسطح دور صغيرة؛ ويهرب الصغار
من ديارهم يتسابقون في تقديم الخدمات لي؛ وتصيح جدتي حالما تسمعهم: إبعدوا عن
التوته يا اولاد الرفَضي.

يفر
الصبية مخترقين درب رفيع؛ وأمسك أنا عود حطب؛ وأمتطي صهوة عود ذرة جاف؛ كما تفعل
الساحرة بابا ياجا بمكنستها في حدوتة جدتي؛ وأجري وراءهم متظاهراً بأني أهشهم؛
وأنا أخترق الدرب المؤدي إلى جسر الترعة.

للطين
وذيل القط نخلع عنا ملابسنا كما ولدتنا أمهاتنا؛ لا نبالي بحواديت الجدة عن الجنيَّه
والغوله والنداهه وأبو رجل مسلوخة والمساخيط وشيخ البحر؛ وفور أن تختفي جدتي؛ أنظر
ورائي أبحث عن أترابي بداخل الترعة؛ وأنا أغوص؛ تنزلق يداي بحفرة؛ ألامس كتلة لحم؛
ذكر بياض؛ وما أجمل البياض الخائف الذي انكمش بالحفرة؛ بانتظار اليد الصائدة؛
وبسرعة البرق أطوق ذكر البياض؛ أفرح تحت الماء؛ أصعد ملوحاً بصيدي للصبية؛ وقد
فروا يحتمون أكثر بماء الترعة؛ ويبحثون مثلي عن بياض وقواقع يصطادونها؛ ثم يفرون
إلى الديار؛ مشمرين ثيابهم؛ ومخلفين وراءهم شبورة من الغبار الكثيف؛ الكاسي؛ تحجب
عنى رؤيتهم؛ ولا تظهر غير أقدامهم الصغيرة المبتلة؛ وهى تفر من سخونة الأرض.

أنظر للصيد؛ أقبله قبلة
النصر؛ أخرج مسرعاً ناحية الشاطئ؛ أرتدي ملابسي على عجل وألحق بالصبية راكباً عود
الذرة؛ مخلفاً ورائي شريط من الغبار الكثيف؛ وبعد العشية يجئ الأطفال؛ فأنزوي معهم
في ركن من الدرب؛ يجاور الطاحونة المهجورة؛ فنعقد اتفاقاً؛ حيث ينصبون لي في
الصباح مرجيحة فوق التوتة؛ ما أجمل هذا وأنا أعلو في الهواء؛ والصبية كقطط آليفة
يتسابقون بدفعي بشدة؛ وعندما ننتهي من صفقتنا؛ أملأ جيوبهم بحبات التوت المخزون
بمشنة جدتي؛ فيجرون مهللين؛ فرحين؛ وتصيح بعض الصبية المختبئين وراء سور الطاحونة؛
وقد امتلأ صوتهم بغضب يطلبون توتاً؛ ثم يجرون لاحقين برفقائهم؛ لكن بدون جدوى؛
فيلتفون حولي؛ فأختال في مشيتي كالطاووس؛ وأنظر إلى الترعة؛ وقد فروا إلى الغيطان
القريبة يبحثون عن دودً في الأرض يكون طعماً لسنارتي. هكذا هى الحياة؛ تبادل منافع.

كان جدي على مدار يومه
الفارغ من أفعاله الجادة؛ لا يمل الصراخ بدعوة؛ او بدون على أحفاد آخرين دوني؛
ولكن؛ قرويين؛ ميامين؛ ومروضين على طاعة أمره المقيم في شئونهم الصغيرة؛ والكبيرة
إن وجدت؛ كفرض عزيز مقتدر؛ ملتذاً بتناول أقداح الشاي المغلي على جمر المنقد؛ مع
برم لفائف تبغه الرخيص بين أنامله المعروقة بالتجاعيد والجفاف والشقوق؛ لافظاً سحب
الدخان الرمادي من فمه المزموم تحت شاربه الكث؛ أنفه الأفطس؛ جفنيه المتهدلين؛ المسبلين
بنشوة اهتزاز رأسه المطربش باللبدة السوداء؛ هائماَ في ملكوت الرب؛ كدرويش في حلقة
ذكر؛ يتمايل يمنه ويسره؛ بإيقاع لحن دافق؛ بليد؛ لكاسيت ديكتاتوري؛ ذي إيقاع
فلكلوري متحفي؛ هدية أبي العائد من بلاد النفط؛ بصدى سماعاته المعربد بتموجات
ترتيل شيوخ الموالد؛ الموشحات؛ حلقات الذكر؛ حكائي السير الشعبية القديمة؛ وكنت
أنا دائم مشاكسته بتبديل الشريط بآخر من هستيريا الألحان الغربية الوقحة؛ ثم أتركه
في حيص بيص؛ منزلقاً على السلم الخشبي العتيق؛ يصحبني هدير صيحاته العنترية
الجوفاء من ركنه القوقعي بغرفة السطح؛ المطلة على الدور الطينية وشجرة التوت
المثمرة والفتحات والصوامع والقش والأرز والحطب والغرابيل القديمة وأسلحة المحاريث
الصدئة والمناجل والسحالي. وللحق؛ لم يقو جدي
أبداً على ترويض عفريتي الفرقع لوزي الشعنون؛ القادم من دروب صخب قاع المدينة
فاقدة العقل؛ ولم تفلح معي على الدوام تطويحه بـالحكمدار فوق الأرض الخشبية؛ أو
استغاثاته الممرورة بالغضب؛ بالتحدي؛ وأنا ألوذ بالفرار من وجهه المأزوم بالثورة؛
بالقنوط؛ بدوران عينيه المطفأتين؛ متدحرجاً على السلم الحجري الزلق إلى صحن الدار
المغبر بالأتربة؛ الصاعدة كالنافورة في ذيل هرولاتي المستعرة؛ كالثور لوحت له
بغلالة حمراء؛ قهقهاتي المعدنية العابثة؛ دعاباتي المهلكة؛ إندياحة جهامة وجهه؛
قدرته المشلولة عن التعامل مع مستحدثات العصر البعيدة عن إدراكه التليد؛ الملبد
بالقنوط؛ بالحنق؛ بالمرارة؛ بالتقاء
الخطان العميقان في جبهته على هيئة عقدة دون
حلها رابع المستحيل
؛
بدعاء المستجير: إلحقوني يا خلق هووووه؛ الوله حيشلني؛ بنزع وصلة التشغيل.

بعد رحيله الموغل؛ أقف الآن
وحيداً على ناصية العمر البعيد؛ مشوقاً لمن يقذفني حتي بحجر يداعب به سنى عمري
القاحلة.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top