أحمد وخليل فى غابة ( مامونة )

    
ذاتَ يوم ..

     دخلَ أحمد وخليل غابة تُعرف بغابة ( مامونة
) ، ولم تكُن هذه المرة الأولىَ لدخولها ، كانت غابة بعيدة عن القُرى ، ومُترامية
الأطراف ، ومهجورة ومُظلمة ، وكانت تتخللها بيوت مُهدَّمة ، تأوى إليها أنواع من
الوحوش الهابطة من الجبال القريبة .

     كما كانت غابة كثيفة الأشجار ، بنخيل مُرتفع
، سامِق فى إرتفاعه ، وكانت تُشاهَد عن بُعدٍ ، مع أشجار سَنط وكافور ، وبعض أشجار
تين وجوافة وعِنب ، وفاكهة لا يحظىَ بها أحد ، اللهم الثعالب ، ولصوص الليل ، وقُطاع
الطرق ، الذين كانوا يختفون داخل الغابة بأمان أثناء الليل ، وينامون ويأكلون ، فى
ظل أشجارها فى وضح النهار، وفى وقت القيلولة خاصة .

     وكشأن الفتية والشباب ، كان أمر الغابة ، لا
يُثير فى الولدين أى رُعب ، بقدر ما يُثير من فضول ، وحُب للمُغامرة ، والرغبة فى
معرفة المجهول ، أكثر من رغبتهما فى جمع الثمار أو تسلُّق الأشجار.

     ومع ذلك أَعد الولدان عدتهما الواجبة ، فحمَل
كُل منهما هراوة فى يده ، وخنجراً وضعه فى وسطه ، ذلك تحسُّباً لأى خطر  يُفاجئهما وهما داخل الغابة .

     وحدث ما كان مُتوقعاً …

     برز لهما ضبع ، من بين الأشجار ، ونظر إليهما
أول الأمر مُتردداً ، وكأنه يتفحص ما يحملانه فى أيديهما ، وعما إذا كان هذا يُمثل
خطراً عليه .. أم لا .

     وطبقاً لخطة ، مُسبقة ، فى ذهن الولدين .

     قفز أحمد سريعاً ، واختفىَ خلف شجرة ، وأخذ
يُراقب الضبع ، مُتأهباً للخطوة التالية !!

     بينما إنطلق خليل يجرى مُتعمداً على مدَق ،
أشبه بنفق وسط الأشجار ..

     وجرىَ الضبع وراءه ، حيث وقع فى ظنه الآن
أنه الأقوىَ مع هذه الفريسة الهاربة..!!

     عندئذ .. برز أحمد من خلف الشجرة ، وجرىَ
سريعاً وراء الضبع ، كأنما يُريد أن يلحق به ..

     وأخذ يُناوشه بهراوته من الخلف ، مُستفزاً
إياه بوخزة عند ذيله!!

     مما دفع الضبع إلى الدوران إليه غاضباً ،
وجرىَ وراءه،وعادَ خليل ، وناوش الضبع بهراوته ، من الخلف مُستفزاً، كما فعل أحمد
تبعاً للخطة المتفق عليها .

     فاستدار الضبع إليه مرة أخرىَ ، وقد إستبد
به الغضب الشديد ، وجرىَ وراءه .

     وظل الولدان ، يُناوشان الضبع ، بخطتهما هذه
، والضبع يجرى وراء أحدهما مرة ، ثم وراء الآخر ، مرة أخرى ، فى وجهتين مُتعاكستين
، دون أن يتمكن الضبع من اللحاق بأحدهما .

       تقطعت أنفاسه ، وأبطأ من سُرعته ، فضلاً
عن بُطئِه المعروف ، وعدم مهارته فى المناورة .

     ثم توقف فى مكانه يلهث ، ويوزع نظراته
الحائرة إلى الولدين لاهثاً ً، وقد تملكه الغيظ والخوف والإرهاق ..!!

     عندئذ … إنقض عليه الولدان ، كُل بهراوته ،
وانهالا عليه ضرباً ، حتى سقط هامداً ، ولفظ أنفاسه ..!

     وجلس الولدان يستريحان ، سعيدين ، وهما
يضحكان ويلهثان ، ويوجهان إلى الضبع القتيل عبارات ونظرات تنمُ عن فخرٍ وانتصار
..!

     بعد أن حصلا على وجبتيهما من الراحة ، وزال
عنهمنا التعب والتوتر ، من أثار الجرى وراء الضبع ، نهضا يواصلان التجوال ، داخل
الغابة ، لكن بحذر شديد هذه المرة .

     وبعد مُضى وقت من التجول داخل الغابة ، وتسلُق
بعض الأشجار ، وتناول بعض الثمار ، تبين لهما ، أنهما أمام خطر جديد ، ليس من
إقتراب المساء فقط ، بل عندما أرادا الخروج من الغابة ، لم يعثُرا على الطريق
المدق ، الذى دخلا منه ..!

     واندفعا يهرولان ، فى عدة إتجاهات مختلفة ،
دون أن يعرفا الشمال من الجنوب ، أو الشرق من الغرب ! وسط ظلمة الأشجار العالية ،
والكثيفة ، برغم أن الشمس لا تزال ساطعة .

ولم
يقودهما أى إتجاه إندفعا إليه ، سوىَ إلى الدخول فى عُمق الغابة  المُظلمة ..! بما يعنيه هذا من ظلام ورُعب وخطر
من وحشٍ جديد مرةً أخرى ، أو خطر من قاطع طريق مُسلح ، أو لص مُختبىء !

     ومضى بهما وقت طويل ومتوتر فى البحث عن مخرج
، مما ضاعف هذا من الرُّعب ، خاصة مع دخول الليل ، وهما فى داخل الغابة .

     وأثناء محاولات التخبط والفشل ، التى تخللها
ضحك مُصطنع ، يُراد به إظهار الشجاعة ، أحدهما للآخر ..! برق فى ذهن أحمد فجأة شىء
كان غائباً أو منسياً ، والآن قد تذكره جيداً ،

     فاتجه على الفور ، يُحدق النظر فى قمم
الأشجار ، وكأنما يبحث عن شىء يعرفه، هو بمثابة الحياة أو الموت الآن .!

     وابتعد أحمد عن زميله خليل قليلاً ، وتحرك
يميناً ، وشمالاً ، ووجهه إلى أعلىَ ، يُتابع ما يُحدق فيه النظر هناك .

وكأنما
ليتثبت منه جيداً ..

فجأة
أمسك بيد خليل ، وانطلق به يعدو مُسرعاً ، فى إتجاه مُستقيم ! وانقاد خليل ، يسرع
معه ، يجرى مُتخبطاً إلى جانبه مرة ، أو من خلفه مرة أخرى ، مُطمئناً إلى أن شيئاً
ما يشبه الفرح رُبما قد عثر عليه أحمد ، فاستدل به على الطريق الصحيحة ، المؤدية
إلى خارج الغابة .

     أثناء جريهما ، وسط الفروع المتشابكة ،
والشائِكة أحياناً ، قال أحمد بلهجة سريعة ، مُطمئنة :

– من
هذا الإتجاه يكون المخرج .. من هنا .. أسْرِع .. يا خليل!

     ثم لاح أمامهما أخيراً ، شيئاً فشيئاً ،
ضياء ساطع ، كانت الشمس تفرشه على المساحات الواسِعة ، والطُرق الترابية الممتدة
خارج الغابة.

     وتوقف الولدان ، على طريق تُرابى ، وهُما
يلهثان بشدة،بسبب جريهما المتواصل، ومن جهدهما خلال ذلك ، فى إبعاد الأوراق
الكثيفة والفروع الصغيرة الشائكة ، المعترضة طريقهما داخل الغابة .

     وسأل خليل أحمد ، بعد أن هدأ :

– الآن .. قُل لى :
كيف عرفت هذا المخرج ؟

وبنبرة
مُتعالية مازحة .. واثقة قال أحمد وهو يضحك :

– كيف عرفت ؟ دلتنى
الأشجار ..!

     وعندما بَدَدَتْ الحيرة ، على وجه خليل ، من
تلك الإجابة الغامضة .

أضاف
أحمد موضحاً :

– نعم .. لقد أمعنت
النظر إلى قمم الأشجار ، بحثاً عن أوراقها الزاهية الخضرة ، والكثيفة ، تحت أشعة
الشمس الذهبية ، لكىّ أُميز الفرق بينها وبين الأوراق الأُخرى ، الأقل كثافة ، والأقل
زهوة فى خُضرتها .

– وماذا تعنى الأوراق
الكثيفة زاهية الخضرة فى قمم الأشجار ؟

     فقال أحمد :

– تعنى الكثير .. تعنى
أنها السبب فى إنقاذنا وخروجنا من هذه الغابة ، قبل حلول الليل ، وقبل أن نصيرَ
وجبة شهية للضباع..داخل الغابة !!

     فسأل خليل بنفاذ صبر :

– أسرِع .. أرجوك ..
وقل لى : ماذا تعنى هذه الأوراق الكثيفة، زاهية الخضرة التى كنت تُحدق فيها النظر
، عند قمم الأشجار ؟

– هذه الأوراق هى
الدليل .. وهى ما كُنت أبحث عنها بنظرى، فهى الأوراق التى تغذت دون غيرها ، فى
الجهات الأخرى ، بأشعة الشمس بعد بزوغها ، وهى الكائنة جهة الشرق ..!

– أما ما عداها من
أوراق ، ولو كانت فى الشجرة الواحدة ، فهى أقل كثافة ، وأقل خُضرة ! لأنها لا
تتغذى بأشعة الشروق مثل غيرها من الأوراق !

لذا
جريت بك ، جهة الشرق ، وهى الجهة الموازية للطريق ، التى سلكناها ، عند دخولنا
الغابة .

     فعلق
خليل ، هازاً رأسه :


وتُهنا عن هذه الطريق ؟

– نعم ، بسبب إبتعادنا
عنها كثيراًً ، خلال المناورة مع الضبع !

وسألَ
خليل ، وقد بدأ الولدان يتمشيان الآن ببطء على مدق تُرابى طويل فى إتجاه قريتهما
البعيدة .

– وهل يستفيد الناس ،
مثل إستفادة أوراق الشجر ، من أشعة الشمس فى الصباح الباكر ؟

– نعم فى فترة الشروق
، حتى العاشرة صباحاً .. أما نوع الفائدة .. فهو الحصول على عُنصر اليود ، لجسمك ،
وكانك أكلت بيضاً أو سمكاً .. مما يقوى جسمك ، ويزيد من صلابة عِظامك ، فلا تنكسر
، عند أقل صدمة ، وأنت تلعب الكُرة،.. أو أى لعبة أخرى ! أليس كذلك ؟

     وأضاف أحمد بنبرة عتاب لخليل :

– ليتك إشتريت ، مثلى
، كتاب ( العلوم المسلية ) . وقرأته ، وكان معروضاً بقروش زهيدة على أحد أسوار
المدينة ، حين كنا نمرُ به فى السنة الماضية .

    سَعِدَ خليل بهذه المعلومة ، واستقَر فى نفسه
ألا يترُك ، كتاباً، مثل الذى قرأه أحمد ، دون أن يشتريه من المكتبة ، أو من على
السور .؟

     ثم علَق على ما حدث مُنتشياً ، وكأنما يتلو
شِعراً ، ويهز رأسه ، ناظراً إلى الأمام :

– الحمد لله الذى
أنقذنا من خطر الضياع ، ومن خطر الضِباع ، على أيدى كتاب وشُعاع ..!

وضحك
عالياً بسرور ، بسبب هذه الكلمات التى حفلَت بالحقيقة ، وبموسيقى اللغة والسجع ..!

إنتهت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *