الفرار من المدينة

 


كان الصمت جليلاً، لا يفض بكارته غير صدى موتور
العربة، وأزيز هبات الريح الفجائية الباردة التي تحرق وتصفع وجوهنا، فننكمش لها
هادئين، ثم. وكأن الريح والرمل والصخر والبرد، قد سحبوا منا حاسة الكلام، مشدوهين
ببلاهة إلى هذا الفضاء البكر، المطرز بمفردات الدهشة. فضاء لم تلوثه بعد مفردات
العولمة، ومزابل الحداثة. فضاء يعتلي صهوة الجبال والتلول والهضاب والتباب وكثبان
الرمال، خاصة في الوهاد المحفوفة بالطريق الأسفلتي القديم، الزائد من ارتجاجات
العربة التي تشبه عرـة “البيانولا” القديمة المتأرجحة تحت ثقلها العظيم..
ومع كل منحنى هابط. رمل ماكر يصفع جباهنا، يجلد الوديان المنبطحة عند القاع، يطير
في كل الإتجاهات، كالجراد الهاجم على العُشب الأخضر في برية بلا ربوع، بلا أسيجة. ولكن.
ما وجه الغرابة، والتوافق الحيوي هو الذي يجمع عناصر الطبيعة هنا، ويعطي لهذا
الوجود في صحراء “”سيناء”” مغزاه؟
.

قطعت العربة
عشرات الكيلو مترات، ومع ذلك، وكأنها في مكانها. والشمس باهتة، وحليب الغيم والرمل
لا يتغيرا، ومع ذلك، هما في تغير مستمر، وهل يشبه كثيباً من الرمل كُثيباً آخر؟.
وبالرغم من ذلك. في صحاري “”سيناء”” الطبيعة خرساء، كائناتها
لا تعبر عن الحركة، إلا بالسكون، فضائها مغيم وهو مشرق، والرمل يولد فيها من رمل،
والريح تنقلُه، وكأن بطن صحراء “سينتاء” لا تحوي سواه، نصعد منه ونهبط،
كمن يتلمس فضاء امرأة منيعة في إحدى مضاجعات الهوى.

تهدئ العربة من
اندفعها الدودي، تقف قبالة إحدى التباب، يصيح الضابط على اثنين من زملائي ليهبطا
من العربة. يخفق قلبي بشدة لمرآى التبة الغامض الكئيب، وذلك المبني الطفلي الواطئ
جداً، بصفرته الداكنة، واثنين من جنود النقطة يهبطان بلباسهما الميري الباهت، وكان
عجباً. أن يبدوان كشبحين لا يجيدان لعبة التخفي، عابسين وصامتين، لكأن الرمل والريح
والصخر هنا أنساهما حاسة الكلام، يتحركان بآلية وبلا انفعال، وهما يحملان عن
زميليهما مخلتيهما الثقيلتين، ثم يصعد الأربعة جنود التبة بونى وهمود.

نقطة المراقبة
شبحية، تحتضنها تبة بلا حجاب، وبلا ظلال. ومن داخل العربة، لم يُغادر الضابط، أما
السائق فهبط منها، وانهمك في ملء خزان حديدي يلاصق سفح التبة بالمياه. ثم عاودنا
الرحيل، بعدما نفثت العربة عدة دفعات من الدخان الأسود، مودعة المدق الرملي،
وزاحفة ببطء بين كثبان الرمال الشاخصة نحونا بدهشة، ورحت أفكر. كيف يغادر زميليا
دون تسليم، أو سلام، يبتلعهما فضاء فاغر فاه، ومُستعد لابتلاع أحياء الكوكب الأرضي
كله بلا عناء؟. ومع ذلك رغبت الفرار من براثن المدينة المكتظة بشرانق الكآبة.
وهأنذا، يكاد يقتلني هذا الفراغ المتوحش بصفرته اللا نهائية.

 

من أجواء
روايتي القادمة “ذئاب الليل”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top