كان ملك من ملوك القدماء، يشتهر برغبته الشديدة فى
اقتناء الجواهر النادرة، فلا يكاد يسمع بجوهرة فى أقصى الأرض، حتى يرسل فى طلبها،
ويبذل المال الجم ثمنا لها، ولا يهدأ له بال حتى يحصل عليها، ويضمها إلى مقتنياته
الغالية…

وكان أعيان البلاد، يحرصون على التقرب إليه بما يحب،
فإذا سمع أحدهم بجوهرة غالية، أو لؤلؤة نادرة، اشتراها بأغلى ثمن، ليهديها إلى
الملك…

وكان بعضهم يتجشم أهوال السفر البعيد، ويركب
المخاطر المهلكة فى البر والبحر، ويبتعد عن أهله وأولاده أسابيع وأشهرا وسنين،
باحثا عن جوهرة كريمة، أو درة فريدة، يتقرب بها إلى الملك، ليظفر برضاه ومحبته،
ويصير واحدا من بطانته.

وبهذا اجتمع للملك من نادر الجواهر، وغالى اليواقيت
والدرر، مالم يجتمع مثله  لملك من الملوك،
وكان سعيدا بذلك كل السعادة، كأنما اجتمع له به ملك الأرض والسماء.

وكان يقضى كل يوم ساعة أو ساعات فى الغرفة التى جمع
فيها هذه الجواهر، يقلبها بين يديه، ويملأ منها عينيه، ويناجيها مناجاة الحبيب
للحبيب…

وكان لتلك الغرفة وصيف خاص، ليس له من عمل فى القصر،
غير صقل الجواهر وتصنيفها، ونفض الغبار عنها، ولا يفارق غرفتها ساعة من نهار، فإذا
جن الليل، وقف على بابها ساهرا وسلاحه فى يده، مخافة أن يدنو من الغرفة أحد…

وذات يوم، بينما كان ذلك الوصيف يمسك جوهرة من تلك
الجواهر، لينظفها كعادته، إذ أفلتت من يده، فوقعت على الأرض، فانكسرت، فانخلع قلب
الوصيف من شدة الخوف، وحدثته نفسه بالهرب هو وأسرته من غضب الملك، ولكن، لا وقت
أمامه لتدبير هذا الأمر الجلل، فقرر البقاء، ومواجهة الأمر بشجاعة، وهو يسأل الله
اللطف والرحمة لنفسه ولأسرته…

ولم يكد يشرق الصبح، حتى علم الملك بأمر الجوهرة
المكسورة، فغضب وثار، وأمر بإلقاء الوصيف فى السجن، ومحاكمته على ما اقترف…

واجتمعت هيئة المحاكمة، ثم قررت أن الوصيف مذنبا،
لأنه أهمل فى واجبه، فانكسرت بإهماله جوهرة من جواهر الملك الغالية، وهو ذنب يستحق
به أن يموت شنقا…

وأذيع هذا الحكم فى جميع أنحاء البلاد، وعرفه الناس
جميعا، فحزنوا وأشفقوا، ولكن، لم يستطع أحد منهم، أن يجهر بحزنه وإشفاقه، مخافة أن
يبطش به الملك الغضبان…

وفى اليوم الذى تحدد لشنق الوصيف التعس، وقف على
باب قصر الملك، رجل فى ثياب أنيقة وزى وجيه، وطلب مقابلة الملك لأمر مهم، لا يريد
أن يتحدث به إلى أحد غيره، فلما سمع به الملك، أمر باستدعائه إليه، ثم سأله: ماذا
تريد منا يا رجل؟.

قال الرجل: إننى يا مولاى جوهرى، خبير بصناعة
الجواهر، وقد سمعت بنبأ تلك الجوهرة المكسورة، فأردت أن أصلحها، إذا أذنت لى.

وكانت تلك الجوهرة من أغلى جواهر الملك، وأحبها
إليه، وكان حزنه عليها شديدا، فلم يكد يسمع قول الرجل، حتى تهلل وجهه بشرا، ثم أمر
الرجل أن يتبعه إلى غرفة الجواهر، ليرى تلك الجوهرة ويحاول إصلاحها…

ودخل الملك الغرفة، والرجل يتبعه، فلم يكد الرجل يرى
الجواهر تحت عينيه، حتى أخرج من تحت ثيابه عصا حديدية، ثم أهوى بها على الجواهر تحطيما،
فلم يترك جوهرة منها صحيحة…

وعقدت الدهشة لسان الملك ويده، فلم يستطع أن ينطق
حرفا، أو يمد يدا، حتى تحطمت كل الجواهر، حينذاك، ثاب إلى الملك رشده، فنادى الحرس
ليقبضوا على ذلك الرجل الأثيم، فالتفوا حوله، وقادوه فى غلظة إلى قاعة العرش، حيث
كان الملك جالسا على كرسيه، وجسمه ينتفض من شدة الغضب…

فلما صار الرجل بين يدى الملك، صاح به: من أنت يا
رجل؟.

أجاب الرجل فى هدوء: أنا راعى أغنام.. أجوب الصحارى
والقفار.. وعندما علمت بقصة الوصيف.. تألمت بشدة، وقررت القدوم إليكم.

قال الملك: وهل الوصيف قريب لك؟.

تنهد الراعى وقال: إنه أخى يا مولاى.

قال هذا ثم خلع الثياب الأنيقة التى كان يلبسها، فبدت
تحتها ثيابا رخيصة، شبه بالية…

قال الملك: ألا تعرف أن الجريمة التى ارتكبتها، ليس
لها جزاء إلا الموت؟.

قال الراعى: أعرف ذلك، وسأموت راضى النفس، قرير
العين.

فنهض الملك عن كرسيه، وهو يقول فى غيظ: ماذا أيها
الأبله؟.

قال الراعى: لست أبله يا ملك، وإنما أنا أعنى كل
كلمة مما قلت لك، إن لى نفسا واحدة، وقد حطمت عشرات، أو مئات من الجواهر، فإذا
كانت كل جوهرة منها فى اعتقادك تساوى حياة رجل، فما أسعدنى حين أموت وحدى، لأفتدى
بموتى أخى الذى أحبه، كما أفتدى عشرات، أو مئات من الناس، بقدر عدد هذه الجواهر
التى حطمتها بعصاى.

برق الملك فى وجه الشحاذ برهة، وهو صامت، لا تنطق
شفتاه حرفا، ولكن، خواطر كثيرة كانت تتزاحم فى رأسه، ثم هز رأسه وابتسم، وقال
للراعى: قد فهمت كل ما تعنيه أيها الراعى الحكيم، الوفى، الطيب ، وإنك لصائب النظر،
فإن النفس البشرية أغلى من كل جواهر الأرض.

ثم أمر بإطلاق سراح الوصيف، ومنح الراعى جائزة قيمة.

تمت

 

By عزت حجازي

أديب وشاعر غنائي وكاتب للأطفال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *