جنيه ذهب يُحدِّث بسيرته

 

 


.

      كنت مشتتاً فى الأرض، مطموراً فى الصخور والرمال،مخلوطاً  بالحديد والنحاس ومختلف المعادن، فبعث الله العمال
يبحثون عنى فى الأرض، فقلبوها، واستخرجونى من باطن الأحجار، بعد أن حملوها إلى حيث
كسروها، فأزالوا زيف الجواهر عنى، وأظهرونى نقياً مُصفًّى، وصاغونى سبائك، صُهِرَت
فى أوعية على تنور مسجور، وأضافوا لى قليلا من مصهور النحاس، ليكسبنى صلابة، وأفرغونى
فى قوالب، فظهرت كما ترانى، : مُستديراً خلاَّباً، أصفر رناناً، لامعاً وهاجاً . يخطف
الأبصار بريقى، ويهز القلوب منظرى، ويحف بى إطاراً جميلاً.

     وليس من شيمتى أن أستقر فى يد، أو أقيم فى بلد
. فطوراً أتلألأ فى يد الوزير، وطوراً آخر ألمع بين أصابع الخفير، ويوماً يحتوينى كوخ
الفلاح، ويوما آخر تضمنى خِزانة التاجر، ولكن العزيز – فى رأى كثير منكم – من ملكنى،
والذليل من حُرمنى . ولقد أجمع الناس على حبى، وخطبوا ودى وقربى، وتهافتوا على طلبى،
فأصبحت فتنة العالمين : روعت فئة منهم فى مضاجعهم، وسُقت الإجرام والغش لكثير منهم،
وزرعت الحقد فى الصدور، وأغريت بالقتل العصابات الشريرة، وساعدت مرضى النفوس على إنتهاك
المحارم، وزينت للص إرتكاب الجرائم، . وسوَّلت للمسئول أن يخون أمته، وللتاجر أن يُدَلِّس
فى بضاعته . وكم جعلت من الشيوخ فسقة فجرة، يموهون فى الدين، ويختلقون عليه الأحكام،
ومن القضاة طواغى أضلهم الله على علم، فاستحبوا العمى على الهدى، واستبدلوا بالعدل
جوراً، واشتروا بالحق باطلا . ومن الكُتاب منافقين غَدَرَة : يحسنون القبيح، ويضلِّلون
الأفهام، وكم إستعبدت أحراراً، واسترقَقْت أعناقاً، وكنت مع ذلك رحمة للعالمين : فإن
الناس بفضلى يرفلُون فى أثواب النِّعم، ويرتعون فى زينة الله التى أخرج لعباده، والطيبات
من الرزق، ويتمتعون بما تشتهى الأنفس ، وتلذ الأعين،. وإن إنساناً يعيشتحت سمائى، ويرتع
فى جناتي، لا تهفو نفسه للنذالة، ويأبىَ إلا الكرامة، فكم وفَرت أعراضاً، وزوَّدْت
بالعفة نفوساً، فامتنع الدنس، وتصوّنت من النقيصة . وفى طاقة من يملكنى أن يجمع الناس
على حُبه، ×ويؤلفهم على إجلاله وتوقيره، إذا سخابى عليهم، أو أنفقنى فى جلب الخير لهم،
ومنع الضر عنهم . وقد أكون تقرباَ إلى الله، ومدّخراً للحسنات، ومكفراً للسيئات، إذا
طابت النفس بإنفاقى، فى تخفيف الويلات، أو مستور الصدقات، أو فى خير المشروعات، كإنشاء
المدارس والمستشفيات، والملاجىء والمصحّات . وكم من مريض رزأه المرض وضعضعه، فأطال
ليله، وأمَرَّ عيشه، وطيّر الرقاد من عينيه، حتى ملأته الهموم، وتقسَّمته الغموم، فدعا
بإسمى مهرة الأطباء، واستحضر بقوتى أنفع الأدوية، فزال همه، وانمحى كربه، ولبس ثوب
العافية، فانتعش وفرح، وابتهج واستبشر . ×

     أنا معين الطالب على إدمان الدرس والتهذيب، ومساعد
العلماء على مداومة البحث والتنقيب، بى تكون السعادة، وتتأنى السيادة، وتُغْسَل الإهانات،
وتُغفَر الزلات . وبى تُلِين الحديد، وتَفْعل ما تريد، وتُخْصِب ×قرائح الشعراء، وتُنَظِّم
جواهرالبلغاء، وقديما كنت ذهب المُعز، أذل ّبى الأعناق، وأخضع الرقاب، وأخرس الألسنة،
وكمّم الأفواه .

     ولقد تباين الناس فى الحصول علىّ، والنظر إلىَّ،
فمنهم من لا يرانى إلا بكدِّ اليمين، وعرق الجبين، وينفقنى فى إشباع بطون جائعة، وستر
أجسام عارية، ومنهم من يرانى أفيض بين يديه من حيث لا يحتسب، فيبذرنى بذرا، ×للحصول
على شهرة، أو كسب جاه، أو يرسلنى عطاء يشترى به حمدا وثناء . ومنهم من يعيدنى وإخوتى
سيرتنا الأولى . فيرجعنا إلى بطن أمنا، حذر العيون أن تلحظنا، والآذان أن تسمع رنيننا،
ولا هَمَّ له إلا أن يكثر عديدنا، ويمتع نفسه برؤيتنا، حتى يودعنا بحسرة . ويخلفه وارثوه
من بعده، فيبعثوننا من قبورنا، ويتصرفون فينا، ولله فى خلقه شئون
 


(من كتابي القادم للطفل)

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *