(باستير) معلم الأطباء !

 

كان
(باستير) معلماً، ولم يكن طبيباً، وقد سأل نفسه ذات يوم سؤالاً عويصاً، هو:

(لماذا
يحمض الطبيخ إذا بقى في القدر وقتاً طويلاً؟ ولماذا يُخثَّر اللبن؟).

      ولم يكن أحد -قي الدنيا كلها- يعرف يومئذ
جواب هذا السؤال، ولم يكن أحد في الدنيا كلها يهمه أن يعرفه، ولكن باستير المعلم
إهتم بهذا السؤال إهنماماً كبيراً، وأخذ يفكر فيه وقتاً طويلاً، ثم صنع معملاً كيميائياً
صغيراً في داره، وأخذ يحاول بعض التجارب ليعرف جوابه.

      كانت الغرفة التي إتخذها معملاً لتجاربه،
صغيرة، رطبة، قد إصطفت فيها القوارير، والأنابيب الزجاجية، ومصابيح الإشتعال، إلى
طائفة من الأوعية في بعضها لبن، وفي بعضها طبيخ حامض، وفي بعضها فضلات قذرة، منتنة
الرائحة، وفي وسط كل ذلك، كان يقف باستير ساعات طويلة بثيابه المشعثة، ولحيته
الطويلة، ووجهه الملوث بآثار ما حوله من الأشياء، في حر الصيف الخانق، يحاول
تجاربه المعقدة، ليعرف:

(لماذا
يحمض الطبيخ إذا بقى في القدر مدة طويلة؟ ولماذا يخثَّر اللبن؟).

      ماذا يعنيه يا ترى من البحث عن سبب حموضة الطبيخ
وخثورة اللبن؟ وما هي نتيجة هذه التجارب الطويلة، المتعبة، المعقدة؟ ما فائدته
منها؟ وما فائدة الناس؟

      لا أحد يدري!

      ولكن باستير –مع ذلك- لا يكل ولا يمل، ولا
يكف عن البحث والتجربة!

      وقال الناس في مدينة (ليل) بفرنسا،

(لقد
جُن باستير ولا شك)!

      وسمع باستير ما يقوله أهل المدينةعنه،
ولكنه لم يهتم بما قالوا، فقد كان يشعر شعوراً عميقاً، بأن عليه بأن يدأب في البحث
حتى يعرف ذلك السبب، ولا يهمه -في سبيل ذلك- أن يصفه الناس بالجنون، أو بالسحر، أو
بمؤاخاة الشياطين!.

      ها هو ذا يأخذ زجاجة من فرن المعمل، فينظر
فيها، ثم يهزها، ثم يحملق فيها، ثم يتحدث إلى نفسه، ثم يدق الأرض بقدمه، ثم يرد
الزجاجة إلى الفرن، وينتظر وقتاً،.

      ويخطو باستير خطوات على أرض الغرفة وهو
يفكر، وينظر إلى الفضلات القذرة في بعض الأوعية، ثم يمسك قضيباً دقيقاً من الزجاج،
فيغمسه في هذه الفضلات، وهو يحركها، ويشمها، ويدقق النظر إليها،.

      ما هذه الأشياء الصغيرة كالذرات، التي تنمو
وتتكاثر وتتحرك في جوف هذه الفضلات وعلى سطحها؟ إنه يراها بالمجهر كأنها حيوانات
صغيرة، صغيرة جداً، من أين جاءت؟ وكيف نمت وتكاثرت؟ وهل كان وجودها، ثم نموها
وتكاثرها، هو سبب حموضة الطبيخ، وخثورة اللبن، وتغير الفضلات،.

      وافرحتا !

       لقد إكتشف باستير شيئاً عظيماً، عظيماً
جداً، فإن هذه الملايين من الذرات، التي تنمو وتتكاثر وتتحرك، وتظهر تحت المجهر
حيوانات صغيرة، هي التي تحول السكر في اللبن إلى حمض، وبغيرها لا يتغير طعم اللبن،.

      لقد أثببت التجارب أن التخمر إنما تحدثه
تلك الكائنات الصغيرة الحية التي نسميها الجراثيم، وهذه الجراثيم أنواع شتى، فهل
يمكن أن تكون بعض أنواعها هى السبب لإنتقال بعض الأمراض، وإنتشار بعض الأوبئة؟

      الكوليرا، والتيفود، والتيفوس، والحمى
الصفراء، والملاريا،. أيمكن أن يكون لكل مرض منها جرثومة تسبب إنتشارها، كما تسبب
بعض أنواع الجراثيم حموضة الطبيخ، وخثورة اللبن؟.

      لابد أن الأمر كذلك!.

      ولكن الناس يسخرون من تلك الفكرة، ويتساءلون:

(ومن
أين تأتي الجراثيم إلى اللحم مثلاً فينتن ويتعغن؟).

      ويجيبهم باستير بأنها تأتي من الهواء، ثم
يثبت لهم ذلك بالإخنبار والتجربة، فيقتنعون.

      إن ذلك السؤال الذي سأله باستير نفسه ذات
يوم هو سبب إكتشاف الجراثيم التي تنقل الأمراض وتنشر الأوبئة، وكان إكتشافه إياها
سبباً لإختراع المطهرات التي تقضي على الجراثيم وتمنع أذاها،

      لقد كان الناس في الزمن القديم إذا عملوا
جراحة لمريض يصبون على جرحه الزيت المغلي ليحفظوه من الفساد. أما بعد أن إكتشف
باستير الجراثيم، فقد رحم الله المرضى والمجروحين من الزيت المغلي، لأن قليلاً من
بعض السوائل المطهرة يكفي في القضاء على تلك الجراثيم!.

      قياله من إكتشاف، علم به باستير الأطباء
-في العالم كله- علماً جديداً، يقضون به على كل أسباب المرض والفساد!

تمت

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top