حقيقة الذاكرة وأين توجد بالضبط؟

 

حقيقة الذاكرة وأين توجد بالضبط؟.. إن جلست لحظة مع نفسك، وحاولت أن تفتكر
وأمامك ورقة وقلم، لتدون في الورقة أسماء البلاد، والأصدقاء، وأرقام تليفونات، وعناوين،
وأسماء الأدوية لو كنت طبيب، ومقادير الجرع التي تكتبها في الروشتات. ولو كنت تعمل
في البورصة، وتتعامل مع أسعار الفتح والإقفال، ومقدار الأسهم والسندات، وأسعار
العملة من الإسترليني والدولار، سوف تفاجأ بنفسك تملأ صفحات بأرقام وبيانات،
وأسماء وعناوين، ومئات التفاصيل، وكل هذا يأتي على سن القلم، وعلى الفور بمجرد
الإستدعاء، ومع كل رقم مذكرة تفسيرية، ومعها وجوه، ومناسبات، وحكايات، وتفتكر
الغنوة ومعها ريحة أصداف الشاطئ، وطعم الحمام المشوي في مطعم على الكورنيس بمدينة
الإسكندرية، وحوار هادئ، وصوت جارسون، ونونوة قطة تحت رجليك، وفرقعة قشاط طاولة
بجانبك، إنه شريط موجود في مخك، مجسم بالألوان، الماضي مكتوب لحظه بلحظه، ومسجل
ومحفوظ.

ما حقيقة الذاكرة؟

والسؤال، أين تلك الصور المخزنة في المخ؟ وكيف تأتي على سن القلم، وتومض في
الذاكرة؟. هناك رأي يقول أن الذاكرة أشبه بالنقش والحفر على الخلايا، وأنها تغيرات
كيميائية كهربية خلوية، حاجة كالتي تحدث في شريط التسجيل بالتمام والكمال، وأن
المخ ما هو إلا مركز تجميع معلومات، وكل حاجة يكون لها دوسيه وأرشيف في المخ،
والجهاز العصبي عبارة عن خطوط طالعه فيها كل الإستشعارات والبلاغات العصبية الأتية
من الإحساسات المختلفة، وخطوط  نازله من المخ
بها أوامر وتنبيهات وتعليمات للعضلات، وللدورة الدموية، والقلب والضغط، وفي الواقع
أن المخ يحتوي، بالإضافة إلى ما ذكره هؤلاء، خطوط ربط،، ومراكز تحليل وتجميع
معلومات، وخزائن يؤرشف فيها كل الخبرات، ثم أن كل خلية بها مركز معلومات خاص
بالإفرازات المأمورة بإفرازها، كغدة البنكرياس على سبيل المثال، فكل خلاياه مختصة
بإقراز هرمون الأنسولين، وكذلك خلايا الكبد مأمورة بإفراز سائل الصفر اء، وبداخل
الحيوان المنوي كراس يحتوي على أوصاف مفصلة للجنين المنتظر.

وحسب هذا الرأي الأول في الذاكرة، ومعناها، وكيف تعمل، في الواقع تلك صورة
مادية للذاكرة، إنها نوع من النقش والحفر على مادة الخلايا، وأنها تغيرات كيميائية
كهربية، كما التغيرات التي تحدث في شريط تسجيل، وبالتالي موت الخلايا، معناها
الفقد النهائي لمحضر الحادث، وضياع التسجيل.

الرأي الأخر في الذاكرة:

وهناك أناس لهم تفسير أخر للذاكرة، ومنهم الدكتور “بيكسون” إذ يقول
أن ما ذكرناه عن الذاكرة وتفسيرها المادي، هو صحيح، نعم.. توجد نسخة مادية، ومحضر
شيفري مادي لكل شئ يحدث في الدماغ، ومتأرشف بداخله، وهذا صحيح، لكن وعاء الذاكرة
الحقيقي الذي به أصل النيات والدوافع السلوكية، والحوافز، هذا نجده فقط في
“النفس الإنسانية”، لأنها هى من ارتكبت الجريمة، وعاء الذاكرة الحقيقي
في النفس، وليس الجسد، وليس “المخ” على وجه التخصيص، فالمخ مجرد كابلات
وتوصيلات، أي مجرد سنترال، جهاز تصريف، إنما الذي يجلس على السنترال ويقوم
بتشغيله، هذا هو وعاء الذاكرة الحقيقي، وتلك هى النفس البشرية، وهى من ارتكبت
الجريمة.

دور المخ في الذاكرة:

إن دور “المخ” هو فقط تسجيل ورقة العمل، سجل محضر على الورق فقط
من أجل التعامل في الدنيا، التعامل اليومي، والنسخة تلك بالفعل تضيع بالموت، لكن
هناك نسحة أصلية في وعاء النفس، وهى لا تضيع بالموت، لأن النفس لا تموت، فالذي
يموت هو الجسد لا غيره.

ما هو الحيوان المنوي؟

يقولون بأن الحيوان المنوي هو بالفعل بداخله كراسة تجمع كل الصفات الوراثية
للجنين القادم، لكن كذلك فإن النفس التابعة للمولود بداخلها أصل كل تلك الصفات في
كراس الحيوان المنوي، وفيها خير المولود وشره، ويبرهن من “بيرسون” بهذا،
أن لو كان كلام الماديين صحيح، كان لازم أي تلف في المخ، يقابله تلف مناظر في
الذاكرة، وهذا غير صحيح، لأن على سبيل المثال، لو حصل تلف في مركز الكلام في المخ،
فلا تتأثر ذاكرة الكلام، ولكن تحدث فقط عاهة في النطق، إنما ذاكرة الكلمات نفسها
لم يصبها شئ، فالمريض يرغب في أن يعبر بالكلام، وعنده الفكرة التي يريد التعبير
عنها بالكلام، لكن لا يستطيع أن يترجم هذه الذاكرة إلى أفعال عضلية تؤدي إلى كلام
مفهوم. أي أن الذاكرة لم يحدث بها شئ، وهى ذاكرة الكلام. إذن وجود تلف في المخ، لم
يأتي بتلف مناظر في الذاكرة، ومعتى هذا أن الذاكرة شئ أخر، فالتلف في المخ يأتي
على تنفيذ الكلمات، وليس على الذاكرة التي تخص الكلمات ذاتها وحفظها. فذاكرة
الكلمات شئ، ثم نقل هذه الكلمات والتعبير عنها شئ أخر.

ومعنى كل ذلك.. أن “المخ” حاجه، و”النفس” حاجة أخرى
مختلفة. أي أن “المخ” مجرد “عدة”، ينفذ كل المكنونات والنيات
الموجودة بداخل النفس، النفس تريد أن تقول شئ، فالمخ يترجم هذا الشئ لحركات عضلية
في الحنجرة واللسان إلى أخره، فيتحدث الشخص عما يريد قوله، والتعبير عنه، وفي
نفسه، أي يعبر عن نفسه. وهذا يشبه حكاية الراديو والصوت، ، فصوت “عبد الحليم
حافظ ” الله يرحمه، مثلاً الراديو يخرب، لكن لا زال الصوت موجود موجة في
الهواء، فلو أتينا براديو أخر سليم، لانبعث صوت “عبد الحليم” من جديد.

إذن لدينا الأن نسختين، نسخه من صوت “عبد الحليم” في موجة
الراديو الهوائية، ونسخة أخرى في أجزاء الراديو الداخلية. فلو تعطل الراديو، وأتيت
بأخر، لا مشكلة، الراديو الجديد سيلتقط الموجة الهوائية لصوت “عبد
الحليم”. وهنا لدينا نسختين، واحدة مادية وهى الراديو المعرض للتلف والتعطل،
ونسخه أخرى في الهواء الإثيري عبارة عن ذبذبات لطيفة موجود باستمرار، ومن أي مكان
نلتقطها، إذا تواجدت الأداة وهى الراديو. وما ذكرت حالاً، هو نوع من التشبيه بين حكاية
الجسد، وحكاية النفس، وأن كل واحد له دور منفصل، وإن كان بينهما ارتباط، ولكنه غير
معطل للنفس، إن حدث ومات الجسد.

حقيقة الذاكرة وأين توجد بالبط؟…. وإلى اللقاء مع مقال علمي جديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top