دخلَ إلينا الفصل ، الأستاذ زكى .. توقف بُرهة
صامتاً، ونحن فى صمت أيضاً ، نتطلع إليه ، وهو يتطلع إلينا .. ثم قال:
–
إستعدوا .. سنقوم برحلة إلى الصحراء .. متىَ ؟.. يوم الجمعة القادم ، إستعدوا .
أضاف ، فأسكت الهمهمة :
– ستكون مُنافسة قوية،
بين كل مدارس الإعدادى والثانوى بالمُحافظة .. تسألون منافسة عن ماذا ؟ .. عن أفضل
موضوع تكتبونه عن الماء ، هذه هى المُنافسة . وتركز نظر الأستاذ على وجهى ، ثم قال
كلمة واحدة بهدوء : (أكتُب)!
كان يعرف أنى أُكثِر من القراءة والإطلاع ،
ومن نظراته ، تأكد لى أنه يخُصُّنى ، فأسعدنى ذلك، وضاعف من ثقتى فى نفسى . إنطلقت أسئلة الزملاء:
– الموضوع عن الماء..
والرحلة إلى صحراء بعيدة ؟ .. لماذا ؟ ولماذا لا تكون إلى نهر ، أو بحر .. ليكُن فى
كل الأحوال.. نحنُ مُستعدون .. نعم مُستعدون !
عُدت إلى البيت ، وأخبرتُ أُمى بخبر الرحلة
، وبخبر تكليفى – تقريباً – بكتابة موضوع عن الماء ، فقالت :
– وأنا مُستعدة أيضاً..
سأجهز لك شراباً وطعاماً ، وحلوىَ تتناولها مع زملائك هُناك .
وفى يوم الرحلة ، حملنا مع طعامنا (جركلاً )
كبيراً مُمتلئاً بالماء ، وانطلقت بنا سيارة كبيرة باكراً جداً، كانت تقف فى
إنتظارنا أمام باب المدرسة ، وانطلقنا نحن بداخلها نُغنى ، بأغانى تعبر عن بهجتنا
بهذه الرحلة ، لم نشعر بالساعات الطويلة التى قضيناها عبر الطريق ، الممتدة حتى
وصولنا .
لم يستجب لنا الأستاذ فوراً ، أن ننطلق جرياً
، على الرمال ، بمُجرد نزولنا من السيارة ، فقد كانت الصحراء المُنبسطة أمامنا ،
والنظيفة ، بهوائها النقى المُنعش ، تدعونا بشدة للمرح ، تحت أضواء الصباح الهادئة..
لقد فضل الأستاذ تناول إفطارنا أولاً . أكلنا وتناولنا الحلوىََ ، وشربنا من
(الجركل ) ، ثم تركناه قُرب السيارة
وانطلقنا نجرى ، كما لو كُنا فى سِباق للجرى ، أو كعصافير الصباح المنطلقة ، وشاركنا
الجرى الأستاذ زكى ، وحتى سائق السيارة، مُتحدياً سِنه الكبيرة، رأيناه يُناضل من
أجل اللحاق بنا سعيداً ، مُستجيباً مثلنا لدعوة جو الصحراء الساحِر فوق الرمال الشاسعة
المُسطحة ، بلا نهاية ، والتى كانت تجذبنا بسحر لا يُقاوم .
جرينا كثيراً ، وتوغلنا ، وبعدنا جداً عن
السيارة ، حتى بدت لنا من ورائنا ، أشبه بلُعبة صغيرة ، ألقوها بإهمال على الرمال
ثم توقفنا نلهث ، عندما توقف الأستاذ زكى
بصورة مُفاجئة، وهو يُشيرُ بإصبع السبابة إلى خطوط مُتعرجة على الرمال ، ورُحنا
نتطلع معه إليها.، بفضولٍ وتركيزٍ – هل ترون هذه الخطوط ؟ .. إنها من نبش الفئران
!
سألت :
–
لماذا تنبُش الفئران هُنَاَ ؟ .
– لتبحث عن غذاء
الملوك ، الذى ينمو هنا ، كما يبدو ، وهو نوع من الفِطر الثمين ، ينمو فى الصحراء
، لكن تحت الرمال ، يسمونه أيضاً (الفجع )، أو (الكمأة ) .
– لكن لماذا يسمونه
غذاء الملوك ؟
– لقيمِته الغذائية
العالية ، ولطعمِه اللذيذ ، ألذ من لحم الضأن! وأيضاً لإرتفاع سعرِه .. الكيلو
الواحد منه بألف درهم بالتمام!
سأل أحدُنا مازحاً:
– وهل إذا أكله أحدنا
صار ملِكَاً ؟!
فأجابه الأستاذ :
– نعم ، إذا دفعت ألف
درهم ثمناً للكيلو الواحد منه ، وأنت لن تستطيع ! ولذا لن تكون مَلِكَاً! ضحكنا وسألنا أيضاً :
– كيف ينمو غذاء
الملوك هنا ، وليس فى هذه الصحراء قطرة ماء واحدة ؟
– بماء المطر .. هذا
المطر الغنى بالمعادن ، الذى يهطِلُ مع حدوث البرق والرعد ، نعم ، يهطِل هذا المطر
، مُختلطا أيضاً بمعادن هذه الصحراء الخِصبة ، فينبُتُ هذا الفطر ، الثمين والغنى
بالمعادن الصحية ، لكنه يظل مُختفياً تحت الرمال ، ولا يعرف مكانه سوى البدو ، سُكان
هذه الصحراء ، والفئران !
صاح
بعضُنا :
– إذاً هيا نبحث عن
هذا الغذاء الملكى !
– هيَّا !
وإنطلقت أيادينا ، تعمل النبش فى الرمال،
بنشاطٍ حماسى عجيب ، كأننا نبحث عن كنز ! وخطوط الفئران كانت دليلنا، ونحن نبحث فى
محاذاتها، وبالقرب منها!
فجأة .. صاح أحدنا ، بفرح الصبية الصِغار ،
وهو يرفع ذراعه عالية ، بشىء يمسكه فى يده :
– وجدته .. وجدته..
هاهو غذاء الملوك!
تحلقنا سريعاً حول زميلنا هذا ، وأخذنا نُحدق
فى هذا الشىء ، الذى يُشبه ثمرة البطاطا، إلا أنها كانت ثمرة مُستديرة بنية اللون.
تناولها من يده الأستاذ ، وراح يعرضها أمام
أنظارنا رافعاً ذراعيه ، وأخذَ يشرحُ :
– هاهو غذاء الملوك ! المُسمى
الكمأة أو الفجع ، وأخذ يُعدِّد لنا مزاياه .
صاح أحمد مازحاً
– هيا نأكُله إذن لنصير
ملوكاً ! .. أقصد نقسمه فيما بيننا!
فقال الأستاذ زكى:
– ليس قبل غسل هذه
الثمرة بالماء .
وتذكرنا الماء ! وتذكرنا أننا عطشى ، بسبب
الأكل ، والجرى ، وتناول الحلوى .. فأسرعنا نجرى إلى ( جركل ) الماء ، عائدين فى
إتجاه السيارة ، حيث تركناه بجوارها على الرمل . وكانت مُفاجأة فى إنتظارنا هناك .. إختفاء (
الجركل ). أو بعبارة أخرى : سرقة (الجركل ) !
وتردد السؤالُ الْمُحَيْر :
( أين إختفى (الجركل) ؟ ، وكيف؟ والصحراء من
حولنا خالية تماماً من البشر ، وليسَ على ظهرها مخلوق واحد سوانا الآن !
قادنا هذا السؤال إلى التطلع تحت أقدامنا،
كماجالت أعيُننا هنا وهناك ، ولاحظنا
بدهشة أثار أقدام مُمتدة من موقعنا، إلى أماكن مجهولة ، تتبعناها بأنظارنا ،
ورأيناها تمتد إلى الجهة المُعاكسة ، لتلك الجهة ، التى إنطلقنا إليها ، حين جرينا
وابتعدنا عن السيارة ، فى أول الأمر.
فوراً تكَون فريق منا، قادَهُ الأُستاذ زكى،
بينما ظل فريق آخر واقفاً وحارسا ً، ومُنتظراً بجوار السيارة ، هذه المرة ! كُنت
أنا ضمن فريق الأستاذ ، ورُحنا نمشى ونمشى على الرمال ، على هَدىْ آثار الأقدام ،
إلى أن وصلنا خلف هضبة رملية مُرتفعة ، كانت تخفى ما وراءها، لنشاهد بعد صعودنا
لها، على بُعدِ مسافةٍ ، خياماً مُنتصبة ، وأغناماً ترعىَ ، وكَلباً ، ما إن أحسَّ
بوجودنا ، حتى أطلق نباحه مُدوياً ، كأنما عثر على لصوص، واندفع يُهاجمنا ، وكأنما
ليُبلغ عنا بنباحه المدوى ! فخرج له رَجُل من خيمة ، ونهرهُ بصوت أقوىَ ، فأسكته
فوراً ، فعادَ إلى الأغنام ، خافضاً ذيله ، وخرج رجُل آخر من خيمة مجاورة، وهو
يحملُ فى يده بُندقية .
شعرنا وكأنما كان خروجه بها ، مُتعمدِاً
للقائنا !
إقتربنا من الرجُلَين، وألقينا التحية (
السلامُ عليكُم ) ، فأجابا على تحيتنا ، بهدوءٍ وصرامةٍ .
توجه الأستاذ إلى أكثرهما طُولاً :
– كُنا فى رحلةٍ ، يا
أخا العرب ، وتركنا (جركل ) مُمتلئاً بالماء عند سيارتنا ، ثم جرينا فى الصحراء
وابتعدنا ، وعندما عُدنا إلى السيارة ، فلم نجد (الجركل ) !
.. فقال الرَّجُل :
– يعنى أنتم بحاجةٍ
للشربِ !
– نعَم !
فنظر الرجُل إلى زميله ، حامِل البندقية،
فتحرك هذا بهدوءٍ، وريبةٍ ، وهوَ ينظرُ إلينا من جانبٍ ، مُتفحصاً ، ودخلَ خيمته ،
وعاد منها ، بقربةٍ ممتلئةٍ بالماءِ ، قدمها لنا صامتاً ، فأخذنا ، نتداولها فيما
بيننا ، لنشرب واحداً بعد الآخر ، شُرباً مُمتزجاً بالخوفِ والقلقِ !
شكرناهُما ، وأسرعت أنا لأقول :
– هُناك زملاؤنا ،
ينتظروننا ، بحاجةٍ ليشربوا أيضاً !
فقال الرجُل سريعاً:
– هاهىَ القربة ..
خذوها ، لكن عليكم أن تدفعوا ألف درهم ثمناً لها !
قالها الَّرَّجُل بجديةٍ ، وملامحٍ صارمةٍ ،
صرامة لا تقبل المساومة ! .. ولاحظنا الرجُل المسلح يتحرك بهدوء ، ليقف خلف ظهورنا ، كأنما ليُحاصرنا ، أو
يمنعنا من الهرب !
أضاف الرَّجُل الطويل ، الصارم :
– على أىِّ حال ، عليكُم
أن تدفعوا المبلغ المطلوب كاملاً ، سواء أخذتم القربة أم لا .. لقد شربتم منها !
ولم يكُن هُناك مجال للتفكير ، أو إظهار للغضبِ ، أو للإستنكار ! ودفعنا أيادينا
فى جيوبنا ، لنُخرج كل ما بها ، ولكن كانت حصيلة ما جمعناه ، لا يفى بنصفِ المطلوب
، أو حتى رُبعَهُ ، ( لقد وقعنا فى فخٍ ) هكذا شعرُ كُلُُ منا !
رفض الرَّجُل المسلح قبول ما قدمناه، رفضاً
قاطعاً ، وقال:
– ألف درهم ، لا تنقص
فلساً واحِداً !
فقال الأستاذ ، كاتماً غيظه :
– كُنا يا أخى ، فى
رحلة إلى صحراءٍ ، وليس إلى سوقٍ ، فلم نحمل معنا نقوداً كافية!
فقال الرَّجُل الطويل ، بنفس الحِدةِ
والصرامةِ :
– إذا .. قدموا ساعاتكم
وهواتفكم ، وكل مافى جيوبكم ، لتفوا بثمن القِربَة !
وقد فعلنا .
قدمنا
لهما كُلَّ ما لدينا ، نقوداً وساعات، وهواتف ، وكاميرا ، وحتى نظارة شمسية ، كانت
على وجه أحدُنا !
سألتُ
الرَّجُل فى غيظ:
– هل ننصرف الآن ؟
– نعم .
وتحركنا للإنصراف مُبتعدين ، نحمل فى نفوسنا
، غضباً مكتوماً ، وفى أيدينا قِربة وفى نفوسنا مرارة !
بعد عدة خطوات، سمعنا ضحكات عالية ، صادرة
من الرَّجُلين خلفنا .
وعندما إلتفتنا إليهما، رأينا الرجل الصارم
المسلح يُنادينا، ضاحكاً لأول مرة ، والرَّجُل الطويل يُشيرُ بيدهِ إلينا :
– تعالوا يا أبطال
المدينة .. يا شباب المُستقبل ، تعالوا ! هيَّاَ!
أثناء رجوعنا إليهما.. لمحنا صبياً فى مثل عُمرنا
، يخرُج من خيمة ، ( حامِلاً بين يديه جركلُنا ) ، عرفنا فيما بعد أنه هو الذى كُلِِّفَ
بالتسلُّل ، وأخذه من السيارة ، ثم أعاد إلينا الرجُل الطويل ، نقودنا ، وأشياءنا كُلَّها
كاملة ، وهو يقولُ فى عِتابٍ وودٍ :
– هل أغناكُم غذاء
الملوك عن الماء ؟!
فهمنا المقصود ، واعتذرنا مرة أخرى ، وعاد
إلينا مفهومنا عن أخلاق البدو العرب ، وقد تأثرنا بهذا الودِ المُفاجىء، المُصاحب
للكرم العربى ، واتفقت أصواتنا على قولٍ ، صِرنا نُرددُهُ :
– نعم .. صدََقت يا
أخا العرب ، نعم الماء هو الكنز الأغلى من غذاء الملوك ( وجعلنا من الماء كل شىء
حى).. صدق الله العظيم .
قال الرجًل بلهجة صديق :
– كُنا نراقبَكُم عن بُعدٍ
.. من خلف الربوة الرملية ، ونراكم تجرون وتنهمكون بحثاً عن هذا ( الفجع ) ! .. مخلفينَ
وراءكُم متاعكُم، وهذا الماء الذى جئتم به ! على العموم ، لولا حاجة زملاؤكم
المنتظرين لشرب الماء الآن، لكنتُم اليوم ضيوفنا .
– شُكراً
.. شُكرا ً ، هذه أخلاق العرب فعلاً .
ثم تكلم حامِل البندقية ، قائلاً :
– نحنُ نُقيمُ فى
الصحراء ، ساهرين بالسلاح لوجود بئر ماء هنا، نحرسُها ونُحافظ عليها ، لا خوفاً من
سرقتها ، بل خوفاً من تلوثها ، أو ردمها ، بهبوبِ الرمالِ عليها ، فنحنُ نحيا بها
، وتحيا حيواناتنا وطيورُنا!
فقال الأُستاذ زكى:
– صدقت يا أخا العرب
.. نعم .. الماء هو أغلى من (الفجع).. الماء هو الحياة !
شكرنا الرَّجُلَين مرة أخرى .. وتصافحنا
بحرارة ، وانصرفنا بخجلٍ ، نحملُ القِربة الهدية ، (وجركلُنا) فى أيدينا، وقد برز
فى عقلى الآن، أفضل عنوان ، جعلته لموضوع المسابقة، الذى سوف أكتُبُهُ : ( الماءُ أغلىََ من غذاءِ
الملوكْ ) ! .. وحازَ على جائزة الماء!
تمت