الحقول المعلقة

 

    
خرجَ صالح من البيت مفزوعاً ، عند سماعِه
أصوات إستغاثة.. صرخات نِساء ، وصيحات رجَال ، شاهدْهُم وهُمْ يُهرولون فى الشارع
، ويطلبونَ النجدة ، والنجاة من الله .

وكانَ أهل جزيرته جميعاً ، قد خرجوا من
بيوتِهم ، وانطلقوا يجرون فى شوارعها ، وحاراتها الضيقة ، المؤديةُ إلى شاطىء
البحر، حيث تجمعوا هُناك وراحوا ينظرون عبرَ مياه البحر الواسِع ، ويرفعون أيديهم
إلى السَّماء لإنقاذ أبائهم !.. وقد عَلِمَ صالح ، أن قارباً قديماً مُتهالكاً ،
قد إنقلب فى البحر ، أثناء عبوره إلى الشاطىء الآخر ، وألقىَ برُكابِه فى الماء ،
وكان مُعظمهُم من شباب الجزيرة الهارب ، والمُهاجر سِراً وعَلناً ، مُغادراً
جزيرته إلى الأبد !

     لم تكُن هذه الحادثة هى الأولىَ .

     فقد صارت تجرى مُحاولات عِدَّة هذه الأيام ،
من الشباب، وظلت تجرى سِراَ على قدمٍ وساقٍ ، لركوب هذه القوارب ، الصغيرة
والمُتهالكة ، ويدفعون مُقابل ذلك كل أموالهم، ثم بعد ذلك ، يدفعون أرواحهم !

     وبدلاً من الوصول إلى البلاد الغنية ، فى
أوروبا وأمريكا ، التى تشدهم إليها أحلامهم ، يصلون بسرعة إلى قبورهم تحت الماء !

     بدأت تحدُّث هذه المُحاولات ، بعد أن
كشَّرَتْ مياه البحار والمُحيطات عن أنيابها ، وأخذت تزحف ، شيئاً فشيئاً ، لتكتسح
أمامها مساحات الأرض ، وتجتاح الحقول والمزارع وتُدَمِرُ الأشجار والمنازل .

     وشيئاً فشيئاً ، صارت مِساحة الجزيرة تتقلص
مع الأيام ، وتضيق بسُكانِها ، ويَشِحُ الرزق فيها ، ويزدادُ الفقر ، وينتشرُ
الجوع بين السُّكان ، الذين تكاثرت أعدادهم ، وتموت حيواناتهم وطيورهم  ، لأنها لا تجد غذاءها من الحّبِ والنبات .

     لهذا إضطربت الحياة إضطراباً ، فى هذه
الجزيرة ، التى أطلقوا عليها إسم ( أرض البشر ) . وكانت من قبل تنْعَم بالغذاء
الوافِر، والأمن والأمان . عندما كانت أعدادهم قليلة .  

     إبتعد
صالح عن الجمع المُحتشد علىَ الشاطىء ، واختار لنفسه رُكنَّاً هادئاً بعيداً ،
وجلس قُرب الماء يُفكر ، وساعدت صالح قراءته الكثيرة ، فى علوم الأرض والفضاء ، وفى
علوم المناخ الذى إختل توازُنه الآن ، بعدََّما بدأ الناس يُهملون المُحافظة على
بيئتهم ويقدمون إليها الإساءة ، بدلاً من الإحسان، واستمروا ، يلوثون الأرض
بالكيماويات ، والمياه بالنفايات ، والهواء بدُخان مصانعهم ، فأحدثوا ما يُسمَّىَ
(الإحتباس الحرارى ) الذى زادَ من حرارة الأرض ، وزادَ ذوبان الجليد ، وارتفاع
المياه فى المُحيطات والبحار .

     وأخذَ صالح يُقلب فى فكرته الجديدة
المُبتكرة ، التى قد بدأ العمل فى تنفيذها فعلاً لإنقاذ الجزيرة .

     والآن جعله الحادث الجديد والأليم ، لإخوانه
وأهل جزيرته، يُصَمِّم بحسم الأمر ، ويخرُج بفكرته المُبتكرة بأسرع ما يُمكن .

     وبعد أيام ، شاهَدْ الناس صالحاً ، بأحد
شوارع الجزيرة ، وهو يقود سيارته النصف نقل ، وعليها نموذج عجيب لبُرج صنعه من
الحديد ، والأسمنت المُسلَّح ، مما جعل الناس يتوقفون وينظرون إليه بدهشة وعجب !

     كان بُرجَاً بطوابق مكشوفة ، محمولة بأعمدة
خرسانية ، وكُلْ طابقٍ أشبه بسطح بيتٍ من البيوت ، يسمَح بدخول الهواء إليه من
الجوانب الأربعة .

     كان البُرج إبتكاراً ، يُعَدْ من أحدَّث
الإبتكارات ، لحَل مُشكلة الأرض فى الجزيرة ، التى صارت تتآكل ، وتنكمِش تحت أمواج
المَد ، الزاحف من البحر المُحيط بالجزيرة ، مما يُعرضها لخطر الفناء التام .

     وتحَلَق المسئولون حولَ البُُرج ( النموذج )
يفحصونه ، وكان أشبه بعمارة سكنية ، مُرتفعة الطوابق ، ولكن بدلاًً من إسكانها
بالبشر ، أسكَنها صالح أنواعاً من النباتات والزراعات ، وجعل كل نوع منها ينمو فى
طابق ، من طوابق هذا البُرج الطوابق الخمسة عشر !

     الطابق الأول جعله لنبات البرسيم ، وحشائش
الحيوانات ،     الطابق الثانى جعله للخضروات بأنواعها المختلفة
، والثالث لنبات القمح والشعير ، والرابع للذرة ، وهكذا ، والطابق الأخير لأشجار
الفاكهة بأنواعها !

     وكما أوصل صالح لكل طابق حاجته من الماء
العذب ، للري عبر أنابيب ، كما يحدُث فى البيوت ، لم ينس توصيل الإحتياجات
الضرورية الأخرى ، من طاقات الشمس المختلفة ، من حرارة وضياء وفيتامينات ، حيث جعل
لكل طابق ألواحاً كبيرة من المرايا ، تعكس أشعة الشمس من خارج البرج ، لتصبها على
كل نبتة ، مهما كانت صغيرة ، من نبات كل طابق.

***

     صار الناس يتحدثون عن إنجاز هذا البرج العجيب
، وفوائده العائدة على سكان الجزيرة ، وقال رجُل طاعِن فى السِّن أمام جمع من
الناس :

– ألم
تكُن الوقاية خير من العلاج ؟ ما الداعى لإقامة مصانع كثيرة لصُنع دباديب للأطفال
مثلاً ، ولدينا الدباديب الحيَّة فى الطبيعة ، لكن بدلاً من المحافظة عليها ، رُحنا
نقتلها لنلبس فراءها ، وما الداعى لعمل مُكبرات صوت ، لتدمير الأعصاب المرهقة
أصلاُ ، من كثرة الضوضاء ، ولدينا الأصوات البشرية الطبيعية الجميلة ؟!

     فقال له أحد الفتيان ، وكان مُتعلماً :

– لكِن يا عَمْ حامد
.. هل نمنع إبتكارات العقل البشرى ، من إنجاز الجديد ، لحل مشاكلنا ؟ .. كهذا
الإنجاز الذى تراه فى هذا البُرج المُبتكر .

     فقال عم حامد :

– أنا مع أى إبتكار جديد
، يحقق الخير ، وضد أى إبتكار يُسىء للطبيعة ، وها أنت ترىَ الطبيعة تردُ لنا
الصاع صاعين ، بل عشرة صاعات ، عندما أسأنا إليها ، وها نحن نراها ، تُدمر الأرض
تحت أقدام المياه الفائضة ، وتشعل الحرائق فى مناطق كثيرة ، وتحطم قرى ومُدناً
بأكملها بالزلازل ! .. كان علينا أن نجد علاجا لهذه الملوثات ، قبل الشروع فى
إنشاء هذه المصانع.

     وافق المستمعون على كلام عم حامد ، وقالوا
له : ( أنت على حق ، وهذا البُرج المبتكر على حق )!

***

     إعتقد صالح أنه قد حل مشكلة الغذاء لأهل
الجزيرة (1700نسمة ) ببرج واحد ، شيدته حكومة جزيرته ، ولم يكُن يعْلَم أنهُ فى
الواقع ، قد حَلَّ مشكلة الغذاء لسكان الأرض جميعاً، بعدد محدود من الأبراج المُبتكرة
، ولهذا إستحق عن جداره لقب هو : ( أبو الحقول المعلقة !!

 

إنتهت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *