قال أحمد :
ذاتَ يوم .. كنت أتجول فى السوق ، وشاهدت
فلاحاً عِملاقاً بطولٍ وعرض .. لفت نظرى إليه .. وكان يبيعُ الفاكهة والخضار ..
قُلت فى سِرى :
( هذا الفلاح . حقه ألا يكون بائعاً بل مُصارعاً
)
فقد أدهشنى بقامته الفارعة ، وعضلاته
المفتولة ، وملامح وجهه النضرة ..
الخلاصة ، لم أُشاهد فلاحاً بهذه الهيئة من
قبل ..!
وكُنت أرىَ الفلاحين فى قريتى ، والقُرىَ
المجاورة بقاماتٍ قصيرة ، وأجسامٍ هزيلة ، ووجوه ضامرة مُرهقة ..
( لا يُمكن أن يكون هذا الفلاح من قريتنا )
هذا
ما قُلته فى سِرى أيضاً ..!
إتجهت إليه ، وألقيت التحية :
– مرحبا
.. هل جئت إلى سوقنا اليوم ، لأول مرة ؟
فأجاب
:
– نعم
–
من أى قرية أنت ؟
– من قرية ( العفية )
..!
وتذكرت تلك القرية ، إنها على بُعد أربع أو
خمس محطات بالقطار جنوباً ، فى أعماق الصعيد ، وتقع تقريباً أسفل الجبل الشرقى مُباشرة
.
لفت نظرى أيضاً ، الخضار الذى يبيعه ،
وفاكهته ، وهتفت فى سِرى :
( يالجمال هذا التين ، وهذا الخيار ، وهذه
الطماطم ..!
كانت فاكهة وخضروات مُختلفة ، عما تعودنا أن
نُشاهده فى سوق قريتنا ، أو فى حقُولها .
واشتريت بعضاً من هذا الخضار ، وتذوقته بعد
غسلِه ، عندما عُدت إلى البيت..
( ما ألذ طعمه ) ..!
وتأكد لى ، أن بضاعة هذا الفلاح العُملاق ،
ليست عادية ، بل وليست مُختلفة فقط فى شكلها الملفت كصاحبها، وإنما أيضاً فى طعمها
اللذيذ وحلاوتها … وصممت على أن أذهب إلى قرية ( العفية ) هذه ، لأُشاهد مزارعها
وحقُولها على الطبيعة لعَلىِ أقع على سِر
هذه ( الطعامة ) اللذيذة فى مزروعاتها ..!
وأنا فى طريقى إلى محطة القطار ، إلتقيتُ
بفلاحٍ عجوز ، أعرفه من قريتنا ، وجدتنى أجلس بجواره ، وأسألُه قبل أن أستقل
القطار :
– عم
رشوان .. لقد شاهدت بالأمس ، فى سوق قريتنا فاكهة وخُضاراً ، لم أُشاهد مثله ، أو
أتذوق أحلىَ منه ، كان يبيعه فلاح غريب عن القرية ، هذه البضاعة المختلفة كل
الإختلاف ، عما نزرعه فى حقولنا .. ما السِّر ؟
فقال عم رشوان العجوز :
– رُبما
ما شاهدته يا ولدى ، من خضار وفاكهة مما يحقنون شجرُه ، أو مما يرشونه بمسحوق
كيماوى ، يجعلُه أضخم حَجماً، وأنضَّر شكلاً ، لكنه بلا طعم أو رائحة..!
–
عفوا يا عم رشوان .. قُلت أن ما شاهدته وتذوقته ، ليس جميلاً فقط ، بل لذيذاً فى
مذاقه أيضاً .. إنه يذكرنى بزراعات زمان ، التى مازلتمُ أيها الكبار ، تصرون على
ترديده ، على أسماعنا ليل نهار ، وتتحسرون ، ونتحسر معكم على إختفائه .
فقال الفلاح العجوز :
– دعنى أُكمل كلامى يا
ولدى ، خضرواتنا زمان ، كانت تبدو أصغر حجماً ، نعم، وأقل لمعاناً نعم ، لكنها
أكثر صحةً وأكثر سلامةً ، وأماناً ، من زراعات اليوم ، لأنها تخلو من الكيماويات،
والمبيدات ، والمواد السامة الغريبة ، التى صاروا يحقنون بها الشجر ، أو يرشونها
على مزروعات هذه الأيام ..!
فقلت مُعقباً :
– كَما يحقنون الدجاج
أيضاً ، بحُقَن الماء ، ليبدو مُنتفخاً كبير الحجم ، ولكى يزيد وزنه عند بيعه ..!
فأضاف العجوز :
– نعم .. لذا .. لم يكُن
غريباً ، أن نرىَ ونسمع ، عن عدد المرضىَ ، المكتظة بهم المستشفيات ، هذه الأيام
.. وعن الأمراض التى إنتشرت ، ولم تكُن بلادنا تعرفُها من قبل .
فقلت مُجدداً :
– لكن يا عمى .. هذا
الفلاح العُملاق ، الذى شاهدته لا يُمكن أن يكون مريضاً بأمراض هذه الأيام ، بل هو
يبدو فى كامِل الصِّحة والعافية ، وهو على إستعداد لهدم جبل بمفرده ، أو تحطيم
جدار ضخم من الحجارة ، لا يستطيع هدمه مائة ثور..!
فضحك العجوز ، وضحكت معه وقال مُعلقاً :
– عجباً ، رُبما كان
هذا فلاحاً جاء من المريخ ..!
ثم أضفت أقول :
– ما يحدُث للناس ، من
جراء المزارع الملوثة ، هذه الأيام ، رُبما يكون صحيحاً ، يا عم رشوان .. لكن ما
شاهدته وتذوقته أنا بالأمس ، من خضار وفاكهة هذا الفلاح الغريب ، لا يُمكن إلا أن
يكون صحيحاً أيضاً مثل صحة جسمه .. ما السِّر ؟ .. هذا ما أُريد معرفته منك الآن !
فقال لى عم رشوان مُتحيراً :
– رُبما السِّر يا
ولدى فى نوع الأرض ، التى زُرعت فيها هذه الخضروات ، وهذه الفاكهة .. إما هىَ أرض
رملية أو جبلية صفراء أو حمراء ، أو هى غنية بالطمى كثيرة المعادن ، هذا بحسب لون
وكمية المعادن ، التى تحتويها طبيعة هذه الأرض .
فقُلت :
– رُبما .. لكننى مُصمم
الآن .. مُصمم جداً !على معرفة الحقيقة!
وركِبت القِطار ، ونزلت فى قرية ( العفية )
، ولاحظتُ فعلا أُناسها الأصحاء الأقوياء ..! وتذكرت الفلاح الذى رأيته.
وقُلت بينى وبين نفسى :
( تُرىَ هل لأنهم أُناس صحراويون ، يسكنون قُرىَ
قُرب الجبال ، وينعمون بمناخها الصِّحى ، وهوائها النقى ، ويزرعون على أرض رملية ،
بِكْر وخِصبة وغنية بالمعادن ؟
وشخصت مُباشرة أُسرع الخُطى ، برؤية المزارع
، وتفقُد الحقول القريبة من هذه القرية .
وعلىَ بُعد مسافة ، قُرب جبال ضخمة ، مُمتدة
شمالاً وجنوباً ، لفتت نظرى ألوان براقة ، تسطع بشدة ، كما شاهدت أجساماً غريبة ،
تعكسُ أشعة الشمس !
وحين إقتربت أكثر ، تأكد لى أن الذى يسطع هناك (عُرُشْ ) من
البلاستيك الملون ، تراصَّت فى خطٍ مُستقيم ، فى مُحاذاة الجبل ، الواحدة وراء
الأخرىَ ، كأنها عربات قِطار .
وكانت تُغطى تحتها ، مساحات مُستطيلة من
الأرض ، زُرعت بالخضروات ، وكانت ( عُرُشْ ) ملونة باللون الأحمر، والأزرق والأصفر
!
وسألت فلاحاً واقفاً هُناك :
– لماذا يا عم هذه (
العُرُشْ ) البلاستيك الملونة ، تغطون بها مزروعاتكم ؟
فقال :
– هذه ( العُرُشْ )
الملونة ، تجعل الخضروات تنمو نمواً جيداً ، لأن كل نبات يُفضِل لوناً خاصاً يحبه
، من ألوان الطيف السبعة للشمس !
وأضاف :
– خضار الطماطم مثلاً
، يُفضِِّلُ اللون الأحمر ، والباذنجان ، يُفضِِّلُ اللون الأزرق ، والخيار ، يُفضِل
اللون الأصفر،..! وهكذا .. لهذا ينمو هُنا الإنتاج ، أسفل هذه ( العُرُشْ ) جيداً
جداً ، ووافراً وجميلاً ، وحجمه معقولاً وطبيعياً ، ويظلُ بعد قطفه ، مُدة أطول
طازجاً !
وأومأت برأسى للفلاح شاكراً ، وسِرتُ فى
طريقى عائداً إلى محطة القطار ، وأنا أحدث نفسى :
( إذن .. هذا هو السر ) ..!
ثم وأنا أستقل القطار ، إلى قريتى ، نبتت فى
ذهنى أغرب فكرة ، تحمست لها جداً ..!
– فكرة مشروع كبير (
للعُرُشْ الملونة ) .. أقيمه ( شِركة ) مع أصدقائى .
وقد كان ..!
– وشَاع فى قُرى
الجنوب ، غير الجبلية ، الخضار النظيف ، الخالى من السِّموم ، والفاكهة الطبيعية
الحلوة ، الخالية من المبيدات ، ومن الكيماويات .
وعرفت أن المسألة ، ليست قاصِرة على نوع
الأرض الطينية ، أو الرملية ، أو الجبلية ، وإنما على التصميم القوى ، والتحدى من
أجل التغير إلى الأحسن والأجمل، وعلى الإرادة الكاملة ، فى طاقة الشباب ، وفى
تطبيق أفكارهم الجديدة النافعة.
وهكذا كان مشروع ( العُرُشْ ) بالألوان ،
الذى أُشتهرَت به قريتنا ، حافلاً بالخير وسلامة الصِّحة لأبنائهم ، حتىَ أُطلق
عليه إسم ( القرية العفية ) !!
إنتهت