للطيارة ألف حكاية

 

أحياناً كان الصغير (النسر) يذهب مع والده إلى
المطار، حيث كان مقر عمله كطيار قديم، وهناك كان يراه يدرب تلاميذه على الطيران
ويشاهده وهو يقود بعض الطائرات، فيرتفع بها في الفضاء، ويمضي في السماء بعيداً حتى
يغيب عن الأنظار ثم يراه وهو عائد بالطائرة، يهبط بها في أمان حتى تستقر على أرض
المطار.

 كان (نسر) ينظر إلى أبيه في إعجاب، كلما إمتطى
طائرة، وكم تمنى أن يجئ يوم قد يصبح فيه طياراً كوالده يجوب أرجاء الفضاء، ويطير
إلى مختلف جهات العالم ويرى من دنيا الناس كل شئ نافع ومفيد.

 بادر الوالد صغيره العزيز، وهو يحتضنه مداعباً:

-لقد
عدنا يا صغيري من المطار.

-حمد
لله على سلامتك يا أبي.

-إذن
هات أسئلتك الجديدة.

 إبتسم (نسر) معتذراً لوالده عن كثرة أسئلته،
ذاكراً له أنه حين كان بالمطار منذ أيام، ظل يرقب حداة، وهى تحلق كالطائرات:

-كيف؟!
إشرح لي

كانت
تستقيم في طيرانها مرة، وتهبط يميناً ويساراً، مرة أخرى ثم ترتفع وتهبط فجأة، كما
تصنع يا أبي، وأنت تدرب طلبتك.

-لا
غرابة في ذلك يا (نسؤر)، فإن فكرة الطيران مأخوذة من الطير، الطير الذي لفت أنظار
المخترعين إلى التفكير في الطيران، وإتخاذها وسيلة من وسائل الإنتقال عبر الجو.

-ومتى
كان ذلك يا ترى؟!

-كان
ذللك منذ خمسمائة سنة تقريباً.

-خمسمائة
سنة؟!

-ونحن
الطيارين ندين بالشكر، والإعتراف بالجميل لصاحب أول محاولة في سبيل هذا الإختراع
العظيم.

-ومن
هو الذي قام بأول محاولة في هذا السبيل؟!

-إنه
ليسعدني، ويسعدك يا ولدي أن أقول لك أن أول رائد من الرواد الذين حاولوا محاكاة
الطائر في طيرانه، وفكر في هذا العمل المجيد، كان من أجدادنا العرب.

-كان
من أجدادنا العرب!!

 وبدت الدهشة على وجه (نسر) الصغير لهذا النبأ
الجليل، واستقبله بمزيج من الإعتزاز والفخر.

-يبدو
أن هذه المعلومة قد أدهشتك يا (نسر)؟!

-بالطبع
يا أبي، لإني كنت أظن –كسائر الناس- أن أول من فكر في الطيران، واحد من أوروبا.

 ثم قال متلهفاً:

-ومن
يا ترى ذلك العربي يا والدي؟!

-ذلك
يا بني هو (عباس بن فرناس).

-ومن
أي بلد كان هذا الرجل العربي؟!

-كان
يعيش في أسبانيا، زمن خضوعها للعرب، وتسميتها بالأندلس، وكان أول من فكر في إبتكار
طريقة يطير بها الإنسان في الجو، ولإهتمامه بالأمر أخذ يتحدث عنه إلى كل من يلقاه.

 وانتشر أمر (بن فرناس) أمله أحد أمراء المؤمنين
بالأندلس الذي يريد أن يمتطي الجو، ويسبح في الفضاء فدعاه ذالك الأمير إلى مجلسه،
وطلب أن يشرح له وللحاضرين، كيف يطير الطائر، وكيف يستطيع الإنسان أن يفعل ما
تفعله الطيور في طيرانها.

 وأوضح له (بن فرناس) الرائد الأول في تاريخ
الطيران فكرته، وأعلن أنه قرر أن يثبت بنفسه قدرة الإنسان على الطيران، أمام الناس
وعلى مرأى منهم.

 وعلى الفور بادر الأمير فدعا العظماء والكبراء
وعامة الشعب لمشاهدة (تجربة الطيران) التي تطوع (عباس بن فرناس) للقيام بها.

 إعتلى الرائد الأول مكاناً مرتفعاً، وقد ثبت إلى
ذراعيه ريشاً كثيراً، فأصبح جناحاه كجناحي الطائر.

 وكادت تتم التجربة بنجاح، لولا أنه نسى أن يثبت
إلى مؤخرته ما يعاونه على توازن جسمه أثناء الطيران، لذلك فشلت المحاولة الأولى
للطيران.

 وسقط صاحبها من ذلك المكان العالي، فمات شهيد
الإختراع الذي خدم الإنسانية فيما بعد زمانه أعظم خدمة.

 بدا الحزن على وجه الإبن (نسر) حين وصل أبوه إلى
نهاية قصة (عباس بن فرناس)، غير أن الوالد ربت على كتفي الصغير وهو يقول: لا تحزن
يا (نسر) فإن كل عمل عظيم، لابد له من تضحيات كبيرةحتى يتم النجاح، وتبلغ
الإنسانية أغراضها من كل إختراع، وأي إبتكار.

وإنه
لشرف لنا نحن العرب أن يكون عربياً، أول من ركب المخاطر في سبيل الطيران.

 ثم واصل الوالد الطيار حديثه مطمئناً ولده بأن
الصعاب لابد أن تصاحب كل من يحاول الوصول إلى أمر كبير.

 وجعل يقول:(واجب أنم تعلم يا بني أن أكثر من
ثمانين محاولة يبذلها المخترعون من مختلف بلاد العالم ليطيروا في الجو، ويحققوا ما
أراده رائد الطيران الأول (عباس بن فرناس).

 ففشلت هذه المحاولات، وقتل أصحابها قبل أن يتمكن
واحد منهم من الطيران بنفسه، أو بإحدى الوسائل التي جربت خلال مئات السنين، التي
سبقت ظهور أول (منطاد) أو طائرة.

-وما
(المنطاد) يا والدي العزيز؟!.

-المنطاد
يا بني حجم مكبر لل (بالونات) الملونة التي تلعبون بها أيام العيد، وتمسكون
بخيطها، وتتركونها تصعد في الجو وحدها، وذلك لإن ثقلها أخف من الهواء.

 وحتى تم إختراع هذا المنطاد؟!.

-أُخترع
أول منطاد (البالون) منذ حوالي 230 عاماً.

-وكيف
كان يوم صعوده في الجو؟!.

-كان
يوماً حافلاً في ضاحية (فرساي) القريبة من (باريس) عاصمة (فرنسا)، وقد أطلق هذا
(المنطاد).

-حاملاً
ديكاً وبطة وخروفاً؟!.

-وكانت
هذه الحيوانات أول المخلوقات الحية التي قدر لها ركوب الهواء والعودة إلى الأرض
سالمة.

-ثم
وضعوا في منطاد آخر مقاييس للضغط والحرارة، وأصعدوه إلى طبقات الجو العليا بهذه
الأشياء، دون أن يكون معها أحد، أو شئ سواها.

-ولماذا
وضعوا بالتحديد مقاييس للضغط والحرارة؟!.

-كي
يصلوا إلى معرفة درجات الحرارة والضغط في الطبقات العليا من الجو.

-لماذا
كانوا يريدون الوصول إلى تلك المعرفة؟!.

-لأنها
تحوي معلومات ضرورية لمن يفكر في إستخدام الجو كطريق للإنتقال.

-ولماذا
هى ضرورية؟!.

-حتى
يعلم الإنسان قبل السفر عن طريق الجو، درجات الحرارة فيه، ومقاييس الضغط، وإتجاهات
الرياح، وسرعتها.

-وكيف
كانت النتائج؟!.

-إستطاع
الإنسان وعلى مدار الأيام، أن يستعمل بنفسه هذا المنطاد في الإنتقال بطريق الجو
إلى مسافات قصيرة، ثم أخذت المسافات تزيد بالتحسينات التي أضيفت إلى هذا الإختراع.

-وماذا
كانت نتيجة هذه التحسينات؟!.

-أصبح
في الإمكان إستخدام (المنطاد) في إنتقال مجموعة من الناس مئات الأميال عبر أجواء
مختلفة، مليئة بالتيارات الشديدة، والعواصف الخطيرة، والأمطار الغزيرة.

-ومع
ذلك إختفى (المنطاد) يا أبي، ولم يعد له وجود، في عالم الطيران، وخدمات إستخدامه.

-إن
السبب في ذلك يا ولدي الشغوف بالعلم والمعرفة أن (المنطاد) كان محاولة، مجرد
محاولة من محاولات الطيران الأولى، لذا كان من الطبيعي أن يختفي حين وصل شقيقان
أمريكيان إلى صنع طيارتهما الأولى في أوائل القرن الماضي.

-طيارتهما
الأولى؟!.

-والتي
كانت بحق أول طيارة يمكن أن تذكر في تاريخ الطيران الذي نراه اليوم، ونعرفه، ونلمس
معالم تطوره المذهل.

-لهذا
أود أن تستأنف الحديث عن قصة الطيارة.

-سوف
يحدث ذلك يا (نسر) عندما أفرغ من عملي بالمطار، وأعود إليك.

 يقترب الطيار والد (نسيم) من البيت، وهو يحس
بإعجاب كبير بحماس إبنه، خاصة إن دار الحديث بينهما عن الطيران، والذي يعد أحب
الأحاديث إليه.

-لم
نتحدث يا أبي عن الشقيقين، ولم نتعرف على طياراتهما الأولى في تاريخ الطيران.

-نعم،
الشقيقان اللذان عرفا في تاريخ الطيران بإسم (أخوان رايت)، وكانا يملكان في أمريكا
مصنعاً للدراجات، لهذا فكرا يوماً في صنع طيارة، يقودانها كما يقودان الدراجات.

-وكانت
النتيجة.

-وكانت
النتيجة أنهما وفقا أول الأمر في صنع طيارة شراعية، تطير بلا محرك،. غير أنهما
وجدا أن هذه الطيارة تخضع لمؤثرات الجو ولا تطير إلا مع إتجاه الريح، ولا ترجى
منها فائدة عملية، على حين أنهما يريدان صنع طائرة تباع فيقتنيها القادرون من
الناس، وتعود عليهما بالربح الوفير.

 ورغم فشل تجربتهما الأولى، فقد كان الشقيقان
(رايت) من أهل العزم، من الشباب المفكر، المثابر على العمل، فصمما على صنع أول
طائرة آلية، يمكن بواسطتها ركوب الهواء.

-فكان
لهما يا ولدي ما أرادا، إذ تحقق على يديهما وجود تلك الطائرة التي عرفت في تاريخ
الطيران لأول مرة.

-بهذا
تحققت أحلامهما، وفازا بالسبق.

-ليت
هذا ما حدث لهما، ليت الأمر إنتهى عند هذا الحد.

-إذن
ماذا حدث لهما؟!.

-إعترضتهما
عقبة خطيرة.

-وهى.

-إيجاد
الأرض الصالحة لتكون مطاراً، تجري عليها الطائرة بسرعة، حتى تستطيع عند نهاية
الممر، أن تحلق في الجو.

-مشكلة
دون شك، عائق لم يخطر على بالهما.

-لهذا
إعتبرا أن نجاحهما في صنع هذه الطائرة، لا يكون مؤكداً إلا إذا جربا طائرتهما،
ودربا على قيادتها، وأمنا بنفسيهما على صلاحيتها قبل أن يقوما ببيعها للناس.

-كيف
يا ولدي العزيز، والمطار كما تراه مكان فسيح جداً. -إذن ماذا فعلا لتذليل هذه
العقبة، وهل إستطاعا الوصول إلى حل لم يكن متاحاً؟!.

صنع غيرها من الطائرات
لإستكمال مشروعهما التجاري.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *