أجرة عامل.. !

عامل

كان السيد (محسن) يراقب العمال؛ وهم يبنون منزله الجديد؛ ويسعون بين
يديه  من أعلى البناء إلى أسفله؛ ومن أسفله
إلى أعلاه؛ يحملون مكائل الحجر؛ وأوعية الملاط؛ ودلاء الماء؛ فلما انتهى النهار؛
وقف العمال بين يدى السيد؛ ليأخذوا أجورهم؛ فأخذ كل منهم حقه ومضى؛ إلا عاملاً
واحداً  إسمه (عبد المعز) فإنه رد أجرته
إلى السيد؛ قائلاً له: إحفظها لى يا سيدى أمانة عندك؛ فليس لى حاجة إليها اليوم…

ثم انصرف كما انصرف سائر العمال…

وجاء الغد؛ فلم يعد (عبد المعز) إلى عمله كسائر العمال؛ ولكن السيد لم يهتم
بالأمر؛ وقال لنفسه: غداً يعود…

ومضى الغد؛ ومضى بعد الغد أيام كثيرة؛ ولم يعد (عبد المعز) فتحير السيد؛
ولم يدر ماذا يفعل بتلك الأمانة المودعة لديه؛ ثم قال لنفسه: لا بأس؛ فالأشتر له
بأجرته فراخاً صًغيرة؛ وأطلقها مع فراخى حتى إذا عاد من غيبته وجد ماله قد زاد
ونما؛ فيكون لى بذلك ثواب عند الله…

ومضت أشهر؛ ولم يعد (عبد المعز) ليسترد ماله؛ وكبرت فراخه فصارت دجاجاً
سميناً؛ بياضاً؛  فأخذ السيد يبيع من بيضها
حتى اجتمع له من ثمنه مال كثير؛ فباع الدجاج؛ وضم ثمنه إلى ثمن البيض؛ ثم اشترى
بثمنها(عنزة)؛ وأطلقها مع غنمه فى المرعى…

ومضت أشهر أخرى؛ وكبرت العنزة؛ ثم حملت وولدت عنزتين؛ وجدياً…

ثم كبرت العنزتان الصغيرتان؛ وحملتا؛ كما حملت أمهما؛ وولدت  فصار لـ(عبد المعز) عنزات كثيرة؛ وجداء كثيرة؛
وهو لا يدرى؛  ولا يدرى أحد  أين ذهب…

وباع السيد  بعض الجداء؛ وبعض
العنزات؛ واشترى بثمنها (عِجلة) وأطلقها مع بقره فى المرعى؛ فلم تلبث أن كبرت؛
وصارت بقرة؛ ثم حملت؛ وولدت؛ ودرت لبناً؛ فأخذ السيد  يبيع من لبنها؛ ومن جبنها؛ ومن سمنها؛ ويدخر
ثمن ذلك لـ(عبد المعز)؛ و(عبد المعز) لا يدرى أحد أين ذهب…

ومضت سنوات؛ والثروة تنمو؛ وتكثر؛ وتزداد؛ والسيد أمين عليها؛ لا ينفق منها
درهماً لغير منفعة؛ وصاحبها لا يدرى؛ ولا يدرى أحد أين ذهب؛ ولا متى يعود…

وكبر السيد (محسن) وهرم؛ فجمع أولاده؛ وقال لهم: إننى أخشى يا أولادى أن
أموت  قبل أن أرد الأمانة إلى صاحبها؛ فإذا
أنا مت؛ فحافظوا عليها؛ حتى يعود إليكم؛ فيستردها…

قال الأولاد: أتظن يا أبانا أنه لم يزل حياً؛ أو أنه سيعود  بعد هذا الغياب الطويل؟. لقد فعلت  كل ما قدرت عليه  للمحافظة على الأمانة حتى بلغت هذا المبلغ؛ وكانت
لا تزيد على دراهم معدودة؛ فالآن قد حل لك هذا المال؛ بعد أن بذلت عمرك فى جمعه
وتثميره.

قال الأب: إعملوا بنصيحتى؛ ولا تغركم المطامع؛ فإن الأمانة حمل ثقيل؛ ومن
أكل لعامل أجراً فكأنما أكل جمراً؛ وأنا أخاف عليكم وعلى نفسى أن يصيبكم جزاء
الخائنين.

ثم مضت أيام؛ وجاء عيد الفطر فدفع السيد إلى أولاده مال الزكاة؛ وقال لهم:
أخرجوا إلى الطريق وقسموا هذا المال  على
من تلقونه من فقراء البلد زكاة عنى وعنكم…

فبينما هم يقسمون المال  بين
الفقراء؛ إذ مثل بين أيديهم شيخ فقير؛ غريب؛ فمد يده إليهم  قائلاًً: أعطونى  فإننى فقير.

قال أحدهم: إنك غريب  فيما نرى؛
وفقراء البلد  أحق بالزكاة من الغرباء.

قال الشيخ فى ذلة: إننى لست غريباً؛ فقد كنت منذ سنين بعيدة أعيش فى هذا
البلد…

ثم أشار  إلى دار أبيهم؛ وقال: وقد
كنت أعمل  فى بناء هذه الدار الكبيرة فى
فتوتى وشبابى…

وكان السيد  يطل  فى هذه اللحظة من شرفة داره؛ فلما سمع قول
الرجل أمر به فصعد إليه؛ ثم نظر إليه برهة وسأله: ما إسمك يا رجل؟.

قال الرجل: إسمى (عبد المعز)…

ثم صمت لحظة؛ وعاد يقول: يخيل إلى يا سيدى أنى أعرفك؛ ألست السيد (محسن)
الذى كنت أعمل له فى بناء هذه الدار منذ سنين.

قال السيد: بلى أنا محسن.

قال الرجل: فإن لى فى ذمتك أجرة يوم؛ كنت قد أودعتها أمانة عندك.

فابتسم السيد؛ وقال: صبراً يا(عبد المعز) حتى تستريح؛ وتغتسل؛ وتغير ثيابك
فإنك فيما أرى محتاج إلى الراحة.

ثم أمر بدخوله الحمام فاغتسل؛ ولبس ثياباً جديدة؛ ثم أكل مع السيد على
مائدته؛ فلما استراح وشبع وطابت نفسه: الآن يحق لك أن تسألنى عن أمانتك فانظر
أمامك ماذا ترى  من هذه الشرفة.

قال عبد المعز: أرى قطعاناً من البقر والغنم تمرح فى المرعى سمينة؛ شبعانة.

قال السيد: إنها لك.

فتقبض وجه الرجل؛ وقال غاضباً: بأى حق 
تسخر منى يا سيدى؛ وتستهزئ بى؟.

قال السيد بهدوء؛ وهو يشير إلى الناحية الأخرى من الشرفة: صبراً وانظر إلى
هذه الناحية؛ ثم أخبرنى  ماذا ترى؟.

قال الرجل: هذه بساتين غناء؛ ذات زهر وثمر…

قال السيد: إنها لك.

فازداد الرجل غضباً؛ وقال: كفى هزؤاً وسخرية منى  يا سيدى.

قال السيد: لست أسخر منك؛ أو أهزأ بك؛ وإنما هو الحق يا(عبد المعز).

ثم حكى له  كل ما كان؛ فأكب الرجل
على يديه يقبلهما؛ وهو يقول: إنك يا سيدى ملك من الملائكة؛ لا إنسان من الناس.

قال السيد: لست ملكاً يا(عبد المعز)؛ بل إنسان يعرف قدر الأمانة؛ ويرعاها
لأهلها.

قال عبد المعز: نعم؛ ولو عرف كل الناس 
قدر الأمانة ورعوها لأهلها  لصاروا
جميعاً ملائكة.

وقضى السيد (محسن) وأولاده وصاحبه (عبد المعز) عيداً سعيداً؛ حافلاً  بالهناءة والمسرات وراحة الضمير.

 

تمت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top