كان (سلطان) سيداً عظيماً
من أهل الجاه والرئاسة، يملك ضيعة كبيرة، ومنزلاً فخماً، ومالاً ضخماً، وكان له
بنت واحدة أدبها فأحسن تأديبها، وكانت إلى أدبها وغناها ذات شهرة بالعقل،
والجمال والفضيلة، فطمع كل فتى من فتيان
القرية أن تكون زوجاً له…
ولكن
(سلطان) كان يشترط شرطاً غريباً على كل خاطب يطلب يد ابنته، فكلما تقدم إليه فتى
ليخطبها سأله: هل أنت قادر على إسعاد زوجتك، وإسعاد نفسك؟. فإذا قال الخاطب: نعم.
قال له الأب: لكى تبرهن
على ذلك، يجب أن تطيعنى، فتعمل كل ما آمرك به خلال سنة كاملة، لا تغضب فيها لأمر
من أمرى، أو فعل من فعلى، فإن غضبت لشئ من ذلك، جدعت أنفك، ورددت خطبتك: فإذا صاح
الديك فى أول يوم من أيام الربيع، وابتدأت
سنة جديدة، فقد عادت إليك حريتك.
لم يستطع أحد من الخطاب
تنفيذ هذا الشرط الغريب، فانصرفوا جميعاً عن خطبة الفتاة خائبين، محزونين، إلا فتى واحداً من فتيان القرية إسمه (كاظم)، فقد تقدم إلى والد الفتاة، فقال له بشجاعة: قد
قبلت شرطك، ولكن لى عليك شرطاً مثله، هو
أن تكظم غضبك مثلى خلال هذه السنة، وإلا حق لى أن أجدع أنفك، كما يحق لك أن تجدع
أنفى.
أطرق الأب برهة يفكر، ثم
رفع رأسه قائلاً: قد قبلت، فلتبدأ السنة المشروطة منذ اليوم.
وفى صباح اليوم التالى،
أصدر (سلطان) أمره إلى (كاظم) بأن يذهب إلى الحقل، ليعمل مع الفلاحين، فأطاع الفتى
وذهب، فلما كان الظهر جاء الخدم يحملون إلى العمال طعام الغداء، فدفعوا إلى كل
عامل طعامه، غير(كاظم)… وكان (كاظم) جائعاً مثلهم، ولكنه لم يغضب لذلك، وقام إلى
(عنزة) فحلبها، وارتوى بلبنها، ثم حمد الله على نعمته، واستأنف عمله مع الفلاحين…
فلما كان المساء، دفع (سلطان)
إلى كل عامل أجرته، ولم يدفع شيئاً إلى (كاظم)، ولكن (كاظماً) لم يكن بحاجة إلى
الأجرة، فلم يهتم للأمر…
ومضت الأيام و(سلطان)
يخترع كل يوم فناً لإغضاب (كاظم) وإثارته، وهو صابر، محتمل، لا يغتاظ، ولا يثور،
بل يتقبل كل ما يحدث بصدر رحب، ونفس راضية، ويلتمس لكل مشكلة يقع فيها حلا ينجيه
منها…
فضاق صدر الأب، وقال لنفسه:
أيغلبنى هذا الفتى العنيد على ارادتى، ويتزوج ابنتى برغمى؟.
ولحظ (كاظم) ما بدا عليه
من أمارات الضيق والغيظ، فأخذ يدبر أمره ليزيده غضباً وغيظاً…
وذات يوم، خرج الأب والأم
والفتاة إلى الحقل، فاستقبلهم (كاظم) باسماً، وقال لهم: هل من خدمة أؤديها؟.
قال الأب: إننا نريد أن
نأكل جزراً، فاذهب واحضر ما يكفينا، ولا تبطئ.
ولم يكن الوقت أوان الجزر،ولكن
الفتى لم يتحير، إذ كان يعلم أن كلب
الحراسة الكبير إسمه (جزر) فجرى إليه، فأمسكه، ثم كتفه وحمله فى سلة، ووضعه بين
أيدى الأسرة، وهو يقول: أيريد سيدى أن أذبحه وأطبخه، أم تريدون أن تأكلوه نيئا؟..
فبدأ الغضب فى وجه الأب،
وقال: قلت لك إننا نريد أن نأكل جزراً.
قال الفتى بهدوء: هذا
والله جزر، فلماذا يغضبك فعلى؟.
فتذكر الرجل الرهان بينه
وبين الفتى فى تلك اللحظة، فاصطنع الإبتسام والرضا، وقال: لست غاضباً، ولكنى كنت
أظن أن عندك جزراً آخر.
وفى اليوم التالى، أمر
الأب الفتى أن يصحب بعض عمال البناء إلى مخزن الغلة، فيفعل مثل ما يفعلون، وكان فى
ذلك المخزن جدار يوشك أن ينقض، فهدمه العمال، وأخذوا يبنون جداراً آخر مكانه، فقصد
(كاظم) إلى جدار آخر سليم، وأخذ يهدمه، فأسرع إليه (سلطان) قائلاً: ماذا تفعل يا(كاظم)؟.
قال الفتى بهدوء: إننى
أطيع أمرك، فأفعل مثل ما فعلوا، فلماذا يغضبك هذا؟.
قال الرجل وهو يوليه ظهره:
لست غاضباً.
ثم قصد إلى زوجته، فقص
عليها القصة، وقال لها: لقد أوشك ذلك الفتى أن يغلبنى، فبماذا تشيرين على؟.
قالت: إنه عنيد، صبور، وما
أظن أننا سنغلبه إلا بالحيلة، فدعنى أدبر الأمر لأوهمه أن السنة المشروطة فى
الرهان قد انتهت، ليترك الحذر ويغلط.
ثم دعت ابنتها، وقالت لها:
إذا كان صباح الغد ورأيت (كاظما) معنا فاختبئى خلف هذه الشجرة، ثم صيحى مثل صياح
الديك لنوهمه أنها صيحة ديك الربيع.
فلما كان الموعد المقترح،
صاحت الفتاة صياح الديك، فقال الأب لـ(كاظم): هذا ديك الربيع قد صاح…
فأسرع كاظم إلى الشجرة،
وأمسك سكيناً ليذبح به الفتاة، فأدركه أبوها، وقال له: ماذا تفعل؟.
قال الفتى بهدوء: أيغضبك
أن أذبح الديك؟.
قال الأب غاضباً: ألا
يغضبنى أن تذبح ابنتى؟.
قال الفتى باسماً: قد كسبت
الرهان، فدعنى أجدع أنفك…
أدرك الأب غلطته، فأخذ
يبتعد عنه، وقد وضع يده على أنفه، ويقول: أطلب منى ما تشاء، ولا تجدع أنفى،…
أترضيك عشر عنزات؟.
– لا…
– عشرة بقرات؟.
– لا…
– عشرة ثيران؟.
– لا، بل أجدع أنفك.
فتدخلت الفتاة بينهما
قائلة: إننى أنا السبب، فهل أن أكون زوجاً لك؟.
قال الفتى وهو يرمى السكين
إلى الأرض: كل الرضا.
قالت الفتاة: بشرط.
قال الفتى: ماذا؟.
قالت: أن يتعود كل منا
الرضا والصبر، فلا نغضب لشئ صغير أو كبير، فإذا غضب أحدنا حق للطرف الآخر أن يجدع
أنفه.
قال الفتى: قبلت شرطك.
وعلى هذا عاش الفتى
والفتاة حياة زوجية سعيدة، وأنجبا البنين
والبنات.
تمت