كان (مؤمن) تلميذاً يتيماً
قد مات أبوه منذ سنين، ولم يترك له ولأمه غير قليل من المال يعيشان به ودار صغيرة
يسكنان فيها…
وذات يوم عاد (مؤمن) من
المدرسة، فقال لأمه: إن زملائى فى المدرسة ذاهبون فى رحلة إلى شاطى البحر ليقضوا
هناك يوماً سعيداً، فهل تأذنين لى فى مرافقتهم؟.
فأطرقت السيدة لحظة، ثم
قالت: ولكننا يا(مؤمن) لا نملك فضلاً من المال لندفع منه نفقات هذه الرحلة، فماذا
ترى؟.
فطأطأ راسه حزيناً ثم قال: ما دام الأمر كذلك يا أمى
فإنى لا أريد أن أذهب.
فلما جاء اليوم المحدد
للرحلة إستيقظ (مؤمن) فى الصباح فاتخذ مقعداً فى الشرفة وجلس كئيباً حزيناً
يفكر فى زملائه وفى الرحلة التى سيتمتعون بها اليوم دونه وفى المناظر الجميلة التى سيشاهدونها ثم تنفس نفساً عميقاً، وهو يقول: الحمد لله على
كل حال.
فلما تناول فطوره، كلفته
أمه أن يذهب ألى السوق ليشترى الحاجات، فأطاعها ومضى…
فبينما هو فى الطريق أبصر
سيدة عجوز تسرع إلى إحدى السيارات العامة
لتركب فسقط كيس نقودها على الأرض ولم تتنبه له، فسار (مؤمن) إلى الكيس،
فالتقطه، وهو يصيح بالسيدة: كيس نقودك يا سيدتى.
ولكنها لم تسمع ندائه، إذ
كانت السيارة قد انطلقت بها مسرعة، ولم يكن بالقرب منه شرطى، فوقف لحظة متحيراً،
وعيناه على الطريق الذى ذهبت فيه السيارة…
لم تمر لحظة حتى أتت سيارة
عامة أخر، فاستقلها مسرعاً، واتخذ مقعده فى الصف الأول ليستطيع أن يتابع بعينيه
السيارة السابقة التى تركبها السيدة…
وكانت السيارة التى ركبها
سريعة، فقوى أمله فى اللحاق بالسيدة، ليرد إليها كيسها، ولم يلبث أن لمحها تغادر
السيارة فى أحد المواقف العامة، فلم تكد سيارته تبلغ ذلك الموقف حتى غادرها مسرعاً،
واتجه إلى حيث اتجهت السيدة، ولكنها غابت عن عينيه فى زحمة الناس، فلم يدر أين
ذهبت؟.
ولم يكن أمامه فى تلك
اللحظة إلا محطة سكة الحديد، فخمن أنها دخلتها، فدخل ليبحث عنها على الرصيف بين
المسافرين…
وقف (مؤمن) على الرصيف
يتلفت يمنة ويسرة، فلمح السيدة واقفة على رصيف آخر بعيد، فاجتاز النفق بين
الرصيفين مسرعاً، ليدركها قبل أن تغيب عن عينيه مرة أخرى، ولكنه لم يكد يبلغ ذلك
الرصيف حتى رأى قطاراً واقفاً، وقد اختفت السيدة فى زحمة الركاب، فقال لنفسه: لقد
ركبت القطار ولا شك، فلأبحث عنها فى إحدى العربات.
ثم ركب القطار، وأخذ ينظر
فى وجوه الركاب فرداً فرداً، ولكنه لم يجد السدة، وقبل أن يتهيأ للنزول دق جرس المحطة، ثم صفر القطار، وتحرك للمسير،
فوقف متحيراً، لا يدرى ماذا يفعل، ولا كيف يتصرف،
ومضى به القطار إلى حيث لا يدرى.
وبينما هو فى حيرته، طرق
أذنه صياح سيدة: كيس نقودي، لقد فقدت كيس نقودى. إبحثوا لى عن كيس نقودى.
خمن (مؤمن) أنها السيدة
التى يبحث عنها، ثم قصد إليها، فلما رآها وعرفها، قال لها: هذا كيس نقودك يا سيدتى،
لقد سقط منك وأنت تسرعين لركوب السيارة
العامة.
فرحت السيدة حين رأت كيس
نقودها، ولكنها نظرت إلى (مؤمن) مدهوشة، ثم قالت له: إذا كان الكيس قد سقط منى
هناك، بعيداً جداً عن هذا المكان، فكيف استطعت أن تعثر بى هنا؟.
فقص عليها (مؤمن) كل ما
كان منذ ركبت، إلى أن غادرت السيارة، إلى أن دخلت المحطة، إلى أن إختفت فى زحمة
الركاب، إلى أن سار به القطار…
ثم قال: وتحيرت يا سيدتى،
فلم أدر ماذا أفعل، ولا كيف أتصرف، وزاد حيرتى أننى لا أعرف أين يمضى بى القطار،
وسمعت نداءك فى أثناء ذلكم يا سيدتى، فأسرعت إليك.
قالت السيدة: لا تقلق يا
بنى، فالقطار ذاهب إلى الشاطئ، ولن يقف
إلا هناك، وستكون ضيفى فى هذا اليوم، حيث
نقضى يوماً جميلاً، وسأبرق لأمك حين يصل بنا القطار لتطمئن عليك.
فلما وقف القطار على
الشاطئ، رأى (مؤمن) غلامين وفتاة فى مثل سنه ينتظرون السيدة على المحطة، وعرف أنهم
أولادها، فقضى معهم بوماً من أسعد الأيام…
فلما جاء المساء صحبته السيدة وأولادها إلى المحطة، وأركبوه
القطار العائد إلى بلده…
وفى صباح اليوم التالى كان
زملاء (مؤمن) جالسين فى فناء المدرسة يصفون رحلتهم السعيدة إلى شاطئ البحر، ويعربون عن أسفهم، لأن (مؤمن)
لم يتمتع مثلهم بهذه الرحلة، فضحك (مؤمن)، وقال لهم: شكرا لكم يا أصدقائى… لقد كنت معكم هناك، ولم
أكن أقصد أن أذهب ولكنى ذهبت…
تمت