حوارُُ بين طالبينِ والثانى نالها فى اللغة العربية


رياض : – أتدرى يا
رشاد من نال أعلى درجة فى اللغة الأجنبية ؟ إن كنت لا تعرفه فهو صديقك رياض،
السبَّاق إلى مناهل العرفان، المُجلىِّ فى حلبة  الرهان . لقد شمرت لها يا صديقى عن ساعد الجِدّ،
وتوفرت على تحصيلها وطرحت ما سواها جانبا، وما زلت أعطيها من ذات نفسى، حتى امتلكت
ناصيتها، وعدت كأحد أبنائها . وهأنذا أجنى ما غرست، وأحصد ما زرعت . ومن جد وجد .
وأحسَب لو أن إخوانى احتذوا مثالى، وترسموا خُطاى، لأجادوا هذه اللغة الحية،
وتمتعوا بثمراتها الشهية . وإنى سأبذل جهد المستطيع، فى أن أصرف عنانهم إليها،
وأزهدهم فى غيرها، فإن نسجوا على غرارى ، فهو ما أردت، وإلا فقد محضتهم النصيحة .
والنصح أغلى ما يباع ويوهب .

     رشاد : – ما هذا الذى أسمعه منك يا رياض .
هل تغيرت خلائقك، وحالت أحوالك، فأُعزى نفسى فيك أم أنا مضطرب الأعصاب، مُبَلْبَل
الفكر، لا أفهم ما تريد . إننى فى اللغة العربية، مثلك فى اللغة الإنجليزية راتِب
الكعب ، راسخ القدم . ولئن افتخرت بذلك فما ركبت شَططاً، إذ أدلُّ على أنى معتز
بلغتى، حريص على قوميتى، مخلص لوطنى وأخو المكارم بالفعال فخور . وأما أن يتشدق
إنسان بأنه اطَّرَح لغته، وشغف بغيرها، لا، بل هدم أهم مميزاته، ليتقمص  جلد سواها، فهو أعجوبة الأعاجيب . أليس من العار
أيها الزميل أنك تحوز الدرجة الكبرى فى اللسان الإنجليزى، ولا تعدو الدرجة الصغرى
فى اللَّحن  العربى؟ أتريد أن تكون من
هؤلاء الشبان، الذين يحسنون الكتابة والخطابة، بعدة لغات أجنبية، فإذا أرادوا
الإبانة عما فى نفوسهم بجملة صحيحة عربية أُرتج  عليهم، وتملكهم العِى والحصر  إننى لا أود لك أن تكون واحداً من هذه الشَّرزمة
. أما كفاك أن فعلت فعلتك التى فعلت، حتى تريد أن تجعلها قانوناً نافذاً، وشرعاً
مُتَّبَعاً ؟ ألم تسمع : من سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة
. لا، يا أخى أعدل عن رأيك، واستغفر لذنبك، ولا تبشر بدينك الجديد بين إخوانك،
فتؤلم نفوسهم، وتحرج صدورهم . وكلهم غيارى على لغتهم، فيلحظوك شذراً ويسوموك هجراً،
فتعيش بينهم غريبا كئيبا .

     رياض : – ما عهدتك يا عزيزى تتشبث بأهداب
الخيال، وتتعلل بكواذب الآمال . ففى الحق أن لغتنا أصبحت لغة أثرية، لا تصلح لهذا
الزمان، ولا يُرجى بعثها من الأكفان، فمن العبث أن نفنى زهرة الشباب، فى تعلم لغة
ميتة على حين أنَّا نستطيع أن نحذق بضع لغات حية فى مثل هذا الزمن، تبعث فينا
روحاً فتية، وتخلع علينا شبابا نضراً، فنجارى الغربيين فى رقيهم، ولا نكون عيالا
عليهم ولعلك تذكر الأثر الوارد . من تعلم لغة قوم أمِن منهم . وهل تجهل أن نهضتنا
العلمية والأدبية، قبَسُ من مِشكاة  الحضارة الأوربية، التى لا نصل إليها من غير هذا
الطريق – وكل من سار على الدرب وصل – إننى حينما أدعو إخوانى إلى تعلم اللغة
الأجنبية، أدعوهم أن يتورّدوا  ورد الحياة،
ويسلكوا مهْيَع النجاة، ويعيشوا مع الأمم على قدم المساواة، وإننى إذ أبرَّز
×فيها أقيم البرهان على نضوج فكرى، وسمو عقلى، وسعة أمالى، وإيثارى الحقيقة
على الخيال، واعتدادى بالأعمال لا بالأقوال .

     رشاد : – إننى لا أنكر عليك أن تتعلم ما شئت
من اللغات،، فكل لسان فى الحقيقة إنسان – ولكن الذى لا أرضاه لك – وأنت أحد أبناء
الوطن العزيز – أن تزدرى لغتك، وتعرض عنها إعراض العلية عن الأدْنَين، فتكون بذلك
قد قطعت رحم القومية، وهدمت رُكن الجنسية، ونكست لواء الوطنية، وماذا يبقى لك بعد
ذلك . إن لغة الأمة دليل حياتها، وعنوان مجدها، وسِر عظمتها . فمتى تناستها أو
تهاونت فى شأنها، فقد أقامت الحجة على أنها غير أهل للبقاء، فأولى بها أن تسام
الخسف . وتُديَّث  بالصغار، بل تذهب من
الوجود غير مأسوف عليها، ولا طلعت شمس ذلك اليوم الذى تنحط فيه أمتى إلى هذا الدرك
الأسفل . إنه ليوم خير لى فيه أن أكون فى بطن الأرض عظما رميما، ورُفاتا  سحيقا . إن اللغات يا أخى يعتريها ما يعترى
الإنسان من أعراض الشباب والهِرَمْ، والصحة والسقم، وهى تبع لأهلها قوة وضعفا،
وصعودا وهبوطا . فإذا رأيت لُغتنا ضعيفة فقيرة، فاعلم أننا الضعفاء الفقراء . أنظر
إلى عناية الأمم العظيمة بلغاتها، وما تبذله فى سبيل رُقيها وانتشارها من جهد ومال،
أترى ينظر الإنجليزى أو الفرنسى بالعين التى تنظر بها إلى لغتك ؟ إن ذلك لمن
المحال . ليست لغتنا كما تظن ميتة أو جامِدة، أو فقيرة، فهى لُغة الكتاب المُنَّزل،
ولِسان الحضارة العربية، التى هى برزخ بين المدنية القديمة والحديثة، ولكن المغلوب
مولع أبدا بتليد الغالب، فلا يحملنك إعجابك بالأجانب، على أن تلقى بنفسك فى
أحضانهم، وتنسَلِك فى سلكهم،، إنك إن فعلت ذلك – ولا إخالك تفعل – درجت فى مدارك
الفناء، من حيث تريد البقاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top