كان رضوان) حجاراً فقيراً يقطع الحجارة من الجبل القريب من
القرية؛ ثم يبيعها للناس ليبنوا بها بيوتهم؛ ولكنه لم يكن يكسب كثيراً من هذا
العمل؛ لأن أكثر أهل القرية كانوا فقراء يبنون بيوتهم بالطين؛ أما الأغنياء منهم فكانوا يستخدمون فى بناء دورهم مواد أخرى غير
الطين والحجارة…
ولكن (رضوان) رغم فقره وكساد بضاعته؛ كان
قانعاً؛ راضياً؛ كريم النفس؛ لا يطمع فيما لا يملك ولا يمد يده لسؤال؛ ولا يشكو هماً لأحد؛ وكان
إذا ضاق به الرزق عكف على قطعة من الصخر
ينحتها بإزميله؛ ثم ينقش عليها آية من كتاب الله؛ أو حكمة من كلام
الأقدمين؛ ثم يعرضها للبيع ويشترى بثمنها
ما يحتاج إليه من أسباب العيش؛ ثم يحمد الله على ما أعطاه…
من أجل ذلك كان أهل القرية جميعاً يحبونه
ويحترمونه ولا يذكرونه إلا بالخير…
وكان يزور القرية فى كل موسم
من المواسم الكبيرة شحاذ خلق الثياب؛ دميم الخلقة؛ غليظ الصوت؛ فيدور بكل بيت
من البيوت يسأل أهله الصدقة فى الحاح ثقيل؛ ثم يختفى بما جمعه من الصدقات؛ فلا
يعرف أحد أين ذهب…
وكان كثير من أهل القرية يعتقدون أنه لص
يتنكر فى زى شحاذ؛ إذ كانوا بعد كل زورة من زوراته يفتقدون بعض أشيائهم؛ فلا
يجدونها؛ فيعرفون أنه سارقها؛ ولكنهم لا يجسرون على اتهامه بالسرقة؛ لأنهم لا
يملكون دليلاً على التهمة…
وفى ليلة من أواخر شهر رمضان سمع (رضوان)
طرقاً على باب كوخه؛ وكان الشحاذ هو الطارق؛ فاستقبله الرجل بلطف؛ ودعاه إلى
الدخول ليقضى ليلته معه فى الكوخ…
وكان الكوخ حجرة واحدة ينام (رضوان) فى جانب
منها؛ وتنام بقرته وحماره فى الجانب الآخر؛ فشاركه الشحاذ فى فراشه بالقرب من مرقد
البقرة والحمار…
فلما حان موعد السحور أكلا معاً؛ ثم ناما
متجاورين؛ أما (رضوان) فكان متعباً مجهوداً؛ فلم يلبث أن راح فى نوم عميق؛ وأما
الشحاذ فظل يقظاً؛ صاحياً؛ وفى رأسه أفكار كثيرة؛ ولم يلبث أن سمع صوتاً بالقرب
منه فأرهف أذنيه يتسمع؛ فإذا البقرة تقول
للحمار: قد آن لصاحبنا أن يغتنى بعد فقر؛ ويسعد بعد شقاء؛ فإن صخور الجبل توشك أن
تنفلق عن الكنز العظيم…
تعجب الشحاذ عجباً كبيراً حين سمع قول
البقرة؛ لأنه مثل كل الناس لم يسمع من قبل بقرة تتكلم؛ ولكنه مع ذلك ظل صامتاً ليسمع بقية الحديث؛ فسمع الحمار
يقول: أنت إذن تعرفين مثلى يا صديقتى سر ذلك الكنز المخبوء تحت صخور الجبل؟..
قالت
البقرة: نعم يا صديقى؛ وكثير من أهل هذه
القرية الطيبة يعرفون مثلى ومثلك أن تحت تلك الصخور كنزاً عظيماً؛ ولكنهم لا يعرفون متى تنفلق عنه
الصخور؛ ولا كيف يصلون إلى الكنز…
قال الحمار: وهل تعرفين أنت يا صديقتى؟.
قالت البقرة: نعم؛ فإن هذه الصخور التى
تراها ليست إلا أرصاداً تحرس الكنز وتخفيه
عن العيون؛ ولكنها – مثل كل الحراس تحب أن تستريح برهة فى كل حين؛ وقد تعودت هذه
الصخور منذ آلاف السنين أن تزول عن مكانها مرة فى كل مئة عام؛ فتنفلق فلقتين؛ تذهب
إحداهما نحو البحر؛ وتذهب الأخرى نحو الصحراء؛ حتى إذا تنفست كل منها نفس الراحة؛
عادت إلى مكانها؛ ثم تلتصق الفلقتان؛ كما كانتا؛ ويختفى الكنز تحت الصخور؛ كما كان…
قال الحمار: حقاً؛ إننى أعرف هذا يا صديقتى؛
ولكنى لا أعرف متى يكون انفلاق هذه الصخور؛ فهل تعرفين أنت؟.
قالت البقرة: نعم؛ بعد أيام ثلاثة ينتهى شهر
رمضان؛ ويهل هلال عيد الفطر؛ فإذا كان منتصف ليلة العيد انفلقت هذه الصخور؛ وذهبت كل فلقة منها إلى
ناحية؛ فينكشف تحتهما الكنز؛ والسعيد يا صديقى هو الذى ينتهز الفرصة فى تلك الساعة؛
فيضع يده على الكنز بفضته وذهبه وجواهره قبل أن تعود كل فلقة من الصخور إلى مكانها…
قال الحمار: ليت السعادة تكون من حظ صاحبنا
فى تلك الليلة؛ فإنه رجل سمح النفس؛ طيب القلب؛ كثير الإحسان؛ برغم فقره وقلة ماله….
قالت البقرة: أصبت يا صديقى فليته ينتبه إلى هذه الفرصة قبل أن تضيع؛ فإن
الصخور إذا عادت فأطبقت على الكنز؛ لا تنفلق عنه مرة أخرى؛ إلا بعد مائة عام…
تململ الشحاذ فى فراشه قلقاً؛ ملهوفاً؛ وهم
أن يقوم إلى البقرة فيسألها مزيداً من البيان عن ذلك الكنز؛ ولكن البقرة وفرت عليه
السؤال؛ وعادت تقول للحمار: لا تنس يا صديقى أنه لابد أن يقتل قتيل فى تلك الليلة
الموعودة قبل أن يضع السعيد المحظوظ يده على الكنز؛ وإنى أخشى أن أنبه صاحبنا إلى
الفرصة؛ فيكون هو القتيل المنتظر؛ ويظفر بالكنز غيره….
إمتلأ قلب الشحاذ أملا فى الحصول على الكنز؛
وأخذ يدبر الأمر فى عقله على أن يكون مضيفه (رضوان) هو القتيل المنتظر ليكون الكنز
له وحده…
وبينما هو فى تفكيره وتدبيره سمع الحمار
يقول: وما رأيك ياصديقتى؛ لكى تتهيأ الفرصة لصاحبنا دون أن يناله شر؟.
قالت البقرة: لو أن صاحبنا استطاع أن يحصل
على غصن زيتون رطب فيه سبع ورقات خضر؛ تحت
كل ورقة منها زيتونة سوداء لوقاه غصن الزيتون من الموت فى تلك الليلة؛ وصار الكنز
من نصيبه.
قال الحمار: ومن أين يحصل صاحبنا على مثل
ذلك الغصن الذى تصفينه يا صاحبتى؟.
قالت البقرة: إن فى القرية كلها غصناً
واحداً بهذه الصفة فى زيتونة عتيقة ببعض
بساتين القرية؛ ولكن صاحبنا لن يصل إلى ذلك الغصن إلا إذا بذل الإحسان لسبعة من
يتامى القرية فى يوم واحد؛ دون أن يقصد بالإحسان إليهم شيئاً إلا وجه الله وحده.
قال الحمار متمهلاً: إن صاحبنا محسن
بطبيعته؛ وما أظنه يبخل بإحسانه على سبعة من يتامى القرية لو أنه عرف ذلك السر…
قالت البقرة منكرة: ماذا تقول يا حمار؟. أتظن أنه حين يعرف
ذلك يكون إحسانه خالصاً لوجه الله؟.
أطرق الحمار برأسه يفكر؛ وصمتت البقرة مطرقة
برأسها تفكر مثله؛ أما الشحاذ الطماع؛ فذهب به الفكر مذاهب بعيدة؛ وخيال الكنز
المخبوء تحت الصخور يملأ قلبه وعقله…
فى تلك اللحظة تقلب (رضوان) فى فراشه؛ فأحس
أن ضيفه الشحاذ يقظ إلى جانبه؛ فاستوى جالساً فى فراشه وهو يقول
لضيفه فى رقة: لماذا لم تنم يا ضيفى العزيز؟. هل وجدت فراشى خشناً؟.
قال الشحاذ؛ وقد لمعت فى ذهنه فكرة خبيثة: الحق
يا صديقى إننى مهموم فى تلك الليلة؛ فقد علمت أمس أن فى قريتكم هذه كثيراً من اليتامى الفقراء لا يجدون قوتاً؛ ولا
مأوى؛ فأحزننى ماعلمت من ذلك؛ وزاد حزنى؛ أننى رجل فقير ليس فى مخلاتى كسرة واحدة
أتصدق بها؛ ولا فى جيبى جنيهاً واحد أجود به؛ وقد ملأ هذا الحزن قلبى فأرقنى؛
وأبعد النوم عن عينى…
قال (رضوان): إنك رجل كريم النفس يا ضيفى
العزيز؛ وقد نبهنى قولك هذا إلى واجب؛ ينبغى أن أبذله لبعض الفقراء من يتامى
القرية لمناسبة هذا العيد المقبل.
قال الشحاذ برقة: أرجو أن أكون معك حين تجود
بإحسانك الكريم على أولئك اليتامى؛ لتطيب نفسى
برؤية هذا المنظر الرحيم…
إستأنف (رضوان) نومه هانئاً؛ قرير العين؛
أما الشحاذ فقضى ما تبقى من ساعات الليل يفكر فى الكنز الموعود؛ فلم يغمض له جفن
إلى الصباح…
وكان أول ما عمله الشحاذ حين أشرق نور الصبح
أنه خرج إلى الجبل الذى يقطع (رضوان) منه الحجارة
فى كل يوم؛ فتسلقه إلى القمة؛ ثم أخذ يدور بعينيه فيما حوله؛ ناظراً إلى
البحر تارة؛ وإلى البادية تارة؛ ثم يمعن النظر فيما تحت رجليه من صخور الجبل تارات
أخرى…
فلما كان اليوم الأخير من رمضان خرج (رضوان)
من كوخه متجهاً نحو القرية؛ وهو يحمل بعض ما يملك من المال ليؤديه زكاة إلى بعض من
يعرف من اليتامى والفقراء؛ فلم يزل يتنقل من دار إلى دار؛ وهو يؤدى إلى كل يتيم
حقه فى مال الزكاة؛ والشحاذ يمشى خلفه؛ وعيناه معلقتان بكل شجرة زيتون يمر بها
يكاد يحصى أغصانها غصناً غصناً وأوراقها
ورقة ورقة وثمراتها زيتونة زيتونة…
فلما انتهى (رضوان) إلى آخر دار من دور
القرية؛ وأدى إلى أهلها زكاته لمحت عين الشحاذ
شجرة زيتون عتيقة تتهدل أغصانها على الدار؛ فلم يملك الشحاذ أن صاح: أريد
غصناً من هذه الزيتونة؛ دعونى أصعد إليه
فأقطعه بنفسى.
ثم صعد الشجرة؛ فقطع منها الغصن الذى عرف
وصفه؛ ثم عاد مع (رضوان) إلى كوخه؛ وكلاهما سعيداً بما أصاب فى يومه من الخير.
فلما وصل (رضوان) إلى باب كوخه؛ قال له
الشحاذ: إن لك فضلاً كبيراً على يا صديقى؛ فهل تأذن لى أن أجلس إليك ساعةل أحدثك
عن بعض سرى وفاء ببعض حقك على؟.
ثم جلس إلى (رضوان) فقص عليه قصة الكنز المخبوء تحت الجبل؛ والموعد
الذى تنفلق فيه الصخور فلقتين واللحظة السعيدة التى ينكشف فيها الكنز للعيون…
وأخفى الشحاذ عن مضيفه قصة غصن الزيتون؛
والقتيل المنتظر؛ وحديث البقرة والحمار؛ ثم قال الشحاذ: وقد رأيت يا صديقى أن أكشف
لك سر هذا الكنز ليكون شركة بينى وبينك نقتسمه معاً.
وكانت الساعة الموعودة قد حانت؛ فذهب (رضوان)
والشحاذ إلى الجبل وجلسا قريباً من سفحه ينتظران؛ فما هى إلا لحظات حتى بدأ الجبل
يتحرك؛ ثم انفلق فلقتين؛ ذهبت إحداهما نحو البحر؛ وذهبت الأخرى نحو البادية وانكشف باطن الأرض عن كنز من الفضة والذهب
والجوهر لم تقع العين على مثله؛ فلم يكد يراه الشحاذ حتى أسرع يعدو نحوه؛ وهو يقول:
إتبعنى يا(رضوان).
ثم أخذ يغترف من الذهب والفضة والجوهر بكلتا
يديه؛ ويضع فى مخلاته وفى مخلاة (رضوان) حتى ملأهما جميعاً…
وكان قد وضع غصن الزيتون إلى جانبه ريثما
ينتهى من اغترًاف الذهب والفضة بكلتا يديه…
وكانت فلقتا الجبل قد بلغتا شاطئ البحر وحدود
البادية؛ فسمع لكل منهما صوت غليظ؛ عميق؛ وامتلأت السماء ضباباً ودخاناً وغازات كثيفة؛ وامتلأ جو
الصحراء بأصداء وحشية؛ غليظة؛ كما تجاوب زئير مئات من عيدان الغاب؛ وهدر الموج فى
البحر هديراً صاخباً كأنما يريد البحر أن يبتلع الشاطئ فى جوفه…
حينذاك
قهقه الشحاذ قهقهة عجيبة؛ وهو يقول: ها. ها. ها. ا. ا إن صخور الجبل تتنفس نفس الراحة.
قال هذا؛وهو يغترف الذهب والفضة والجوهر
بكلتا يديه؛ ويملأ كل ما حواليه من الأوعية؛ (رضوان) ينظر إليه صامتاً؛ نتظر أمره؛ قد رفع عن الأرض
غصن الزيتون الذى رماه الشحاذ من يده…
وفجأة؛ أحس الرجلان باهتزاز الأرض من
تحتهما؛ ورأيا فلقتى الجبل تتحركان نحوهما؛ أما (رضوان) فملأ الروع قلبه؛ فظل
واقفاًً فى مكانه مدهوشاً؛ كأنما تسمرت رجلاه فى الأرض…
ونظر الشحاذ وراءه؛ وهو يجرى نحو القرية؛
محاولا أن يرى (رضوان)؛ فرآه لم يزل فى مثل وقفه المدهوش وفلقة ضخمة من الجبل تزحف نحوه فهتف الشحاذ مسروراً: مسكين. ولكنه لابد أن يموت؛ إذا كان
لابد أن أنجو.
ولكنه لم يكد يفرغ من كلمته حتى راحت فلقة
الصخر تزحف نحو (رضوان) وتنفلق فلقتين عن يمينه وشماله؛ ولكنهما لم تمساه بسوء؛ ثم
اندفعتا بسرعة نحو الشحاذ…
وتذكر
الشحاذ فى تلك اللحظة غصن الزيتون؛ ولكنه
كان بعيداً عنه؛ بعيداً جداً؛ لا تصل إليه يده؛ ولا عينه؛ لأنه كان وقتئذ فى يد (رضوان)…
وصرخ الشحاذ صرخة واحدة؛ ثم خفت صوته؛
واختفى جسده؛ لأن صخور الجبل عادت فالتأمت شاهقة فى المكان الذى كان يقف فيه؛ وضاع
أثر الشحاذ من يومئذ؛ فلم يعرف أحد أين ذهب….
أما (رضوان) فقد عاد إلى كوخه؛ وهو يحمل
مخلاتين قد امتلأتا ذهبً وفضة وجواهر؛ فعاش منذ ذلك اليوم عيشة سعيدة؛ وعاش كل يتامى القرية وفقرائها
سعداء معه.
تمت