نشعل فتيل اللمبات الكاز، بعد أن يتحول
الضوء في الخارج من الأصفر إلى النحاسي إلى القرمزي إلى الإرجواني إلى الأزرق،
وأخيرا الأسود، ويلتوي الليل أسياخاً محمية في أرواحنا، ويهل صارماً، قاسياًً،
مثلجاً، يحمل نُذر الشر، يخفف من وطأته بعد تناولنا للعشاء من الجبن والمربة
ممارسة الصول لدور شاعر الربابة، الذي لا يكف عن الحكي والمسامرة والتدخين وإلقاء
الحكم والمواعظ والتعليقات والنكات الملونة وسرد الحواديت وإعطاء الأوامر هنا
وهناك، وعلى التبة، صفير ريح، ظلام مثل ظلام الكوابيس، وأشباح غامضة تتراقص في
الخارج، لها مكان في الروح، في القلب، في العقل، ومعها، لا أحاول تدقيق النظر، حيث
ضوء النجوم خافت، وبصيص ضوء من نافذة غرفة الإشارة يمنحني بعض الونس، وأنا ألتقط
صدى صوت الصول، وهو يواصل فتح صنبور حكاياته ومآثره القديمة، التي تملأنا بهجة
وحبوراً، وتضئ الساعات –الموحشة بالحكمة والعظة والفكاهة والضحكة!.
،
أنتهي سريعاً من حمامي المائي على سطح التبة، وأدلف إلى المبيت، وفي لمح البصر، أنضم
إلى النفر المتحولق حول منقد النار، يتصدره الصول الذي يعاجلني بكوب من الشاي
الأسود الساخن، مواصلاً تكرار حكيِّه عن أبيه، أمه، القرية الشمالية، وسية الباشا،
غيط الحوض القبلي، مشغل حرير أبيه، جلبابه الدبلان القصير، منحول الياقة والأكمام،
طاقيته المثقوبة، مشنة الخبز القديد والجبن القريش والسريس والجعضيض، المخلوطان
بعيدان القش، القُلة مشطوفة الرقبة مثل قلتنا، كرباج الباشا، سوء البخت، الجفاف،
الجوع، عودة أبيه وأمه وأخته إلى الجنوب من جديد، وبقائه هو متطوعاً في جيش
المحروسة، وزواجه –مثل أبيه من الشمال، وفجأة، تنشب الحرب اللعينة، وتشتعل غارات
العدو، ويتعالى هدير المدافع، وتتوالى مدن القناة المهدمة، ثم مشهد نزوحه الباكي
مع أسرته، حيث قطارات السكة الحديد المزدحمة، واختناق الأتوبيسات، وامتلاء
اللوريات والتاكسيات بمئات الألوف من الأسر المصرية، تفر من جحيم المعارك بخط القناة
إلى المدن والقرى البعيدة، يرقدون تحت صقيع الشتاء في الطرقات والخرائب والمقابر
ويفترشون المساجد والكنائس والمدارس والأديرة، وكان من نصيبه –قبل بدأ حرب
الإستنزاف تلك الغرفة الضيقة، الرطيبة، تحت بئر سُلم العماره، الضخمة، الفخيمة،
بزجاج بوابتها المطلي بلون الغارة الأزرق، والقريبة من الملجأ المموه بالخضرة العتيقة!.
، ثم
يواصل بآسى: أبي إسمه الحريري، من أسرة توارثت نسج الحرير، كان طويلاً منحوت
القسمات، وجهه أسمر وشعره أجعد مثلي، وكانت عيناه شديدتي السواد، ثاقبتين، تضفيان
عليه حضوراً وهيبة، وكان رغم فقره واسع الاطلاع، كثير القراءة، وهو الذي أورثني
تلك العادة، وكان جدي يقيم معنا بالدار، كان يشبه أبي وإن جعلته الشيخوخة نحيلاً، ويبدو
أقصر من أبي قليلاً، وكان يطيل الصلاة ويحمل بين يديه مسبحته طوال اليوم، حتى وهو
لا يسبح بها. وكان يصيح بنا حين نسرف في الصخب، ويجري وراء دجاجة حين تسرف هى
الأخرى في النفنقة، وينهر كلب حين يعاود من جديد رغم إكرامه في المرة الأولى
الإنتظار أمام الباب المفتوح وقت تناولنا للغداء في صحن الدار، ولكني لم أكن أخافه،
أي جدي، لا أدري لماذا لم أكن أخافه!، أما أمي قكانت بيضاء، طازجة، في جسمها إمتلاء،
تميزها ضحكتها، تضحك فيصير وجهها وضاءً، شديد الجمال، وكان أبي ينسج لها قطعة من
الحرير كل عام، فتفصلها ثوباً ترتديه في ليلة النصف من شعبان، وأول رمضان، وليلة
القدر والعيدين، وعندما تُدعَى لعرس من الأعراس، أتذكرها في ثوبها الحريري الأزرق،
وفي ثوب آخر كحلي، به نقوش بيضاء، وكانت أختي تصغرني بأربع سنوات، تقول
أمي:”فطمتك فحملت بها”، أتذكر وأنا أحملها وأهدهدها، حتى تنام، وأتذكر
خطواتها الأولى، وهي تتعثر في المشي، وأتذكر أنني كُنت أحملها على ظهري، وأركُض
بها في حقل البرسيم وهي تضحك!.
يتوقف الصول، يطلق تنهيدة عميقة، ثم: هه، كانت أيام، الله يرحمك يا أبي!.
أتدخل: وهل والدتك بخير؟!.
نعم،
وهي تقيم معي بالقاهرة، منذ وفاة أبي، أما أختي فقد تزوجت من ابن عمها وتعيش في
قريتنا الجنوبية!.
ينتهي الصول من حديثه الشيق، وفي العراء، أشعُر وكأن أحداً يرقبني من مكان ما، فألتفت،
وأنظر من ثقب على يميني في الجدار الصاجي، فإذا بي أرى شبحاً بعينين مضيئتين، وفي
ثانية، أقطع حمامي البرميلي، وأغادر بلوثة، وفي لحظة أدفع بهلع باب المبيت، وأستلق
تحت غطائي، وأبصر بندقية الحراسة بجوار الباب المغلق، فأهدأ قليلاً!.
، هنا نوبات الحراسة تتم بالدور!.
يتتالى وقع أقدام مجهولة فوق السطح الصاجي،
ينتفض لها بدني، وأنا أنظر إلى وجوه زملائي الساكنة، المترقبة، فيتدخل الصول،
ناظراً تجاهي بعينين حادتين، مخيفتين، ينهرني: لماذا؟!.
-لماذا ماذا؟!.
-لماذا تخاف؟!.
ثم يواصل: أتخاف من قط جبلي، أو ذئب، أو
ضبع، أو ثعلب، أو شبح!.
أنفجر بغيظ من لا يستطيع أن يدفع عن نفسه
الضرر: ومما أخاف، إن لم أخف من كل ما ذكرت؟!.
بضحكة وحشية: لا، لا، لا تخف!.
أعقب بسرعة: أمين، ولكن،!.
– من غير لكن، هل طاردك؟!.
-نعم.
-أمتأكد؟!.
-نعم.
-مائة في المائة؟!.
ليس هناك ماهو مائة في المائة!.
-أنت غير متأكد إذن؟!.
-نعم، لا!.
-ماذا تعني بنعم، لا، أهذه إجابة؟!.
-ماذا تكون الإجابة؟!.
-إما نعم، وإما لا!.
-إذن، نعم!.
-أنت غير متأكد إذن!.
-نعم.
-مائة في المائة!.
-لا!.
-إذن، إهدأ، وقل لي، ماذا كان يميزه؟!.
-عينين كالجمر!.
-إذن، لا تخف، هو ما قلت، قط جبلي، أو ثعلب،
أو ضبع، أو شبح!.
أضبف، بما يشبه الإنفعال: وما دام الأمر
كذلك، لماذا لا تضربونه بالنار؟!.
كبير المراقبين: إن فعلنا، لن نجد بعد عدة
ليال ولا طلقة واحدة، ثم أنها ليست المرة الأولى، وقد أخذنا على هذا الأمر من طول
توليفنا على المكان، وعشرتنا لمخلوقات النار، فلا يوجد فرد واحد منا لم يصبه دور
الحراسة، وعندما يرى أحدنا إياها يهب إلى الداخل، وكفى المؤمنين شر القتال!.
، الصول ناظراً تجاهي، وفي نبرة ضاحكة:
سبحان الله، كثير من إخوانك في البداية عندما كان يقع في موقف مماثل كنت تظن بأن
الحرب إندلعت، وأن النقطة ضُربَت بالنابالم، أو في طريقها للضرب، أما أنت فتستحق
نيشان، أو وسام الشجاعة، فرغم كونك حديث العهد، فقد اكتفيت بالهرولة، ولم تشعل
حرباً!.
صاحب الراديو، البادي كفأر مكتوم اللون،
أو غصن شجرة ذابل:
لا إله إلا الله، ليتها تفعل!.
من مجموعتي القصصية تحت الطبع “عريت جولدا”.