وأخيراً تجيب عمتي
كانت على الأرض
بعض الحجارة المتساقطة من البيوت بفعل اهتزازات القصف. وكانت العالم تركض، ومنهم من
يمشي ببطء لكبر سنه، ومن يحمل أطفاله على صدره أو ظهره.
كان المشهد مخيفاً
يبعث على الذعر ألمحه خصيصاً في عين أبي وأمي وعمتي فريال وأختي الكبيرة داليا، ونحن
نمر من أمام مَقام ستنا نفيسه في قافلة صغيرة. وأذكر أني كنت أسأل عمتي فريال دوما
عن هذا المَقام: عمتو؟.
-شو؟.
-ليه سموه مقام ست نفيسه؟.
لا تجيب عمتي ككل
مرة، بل تقطب ما بين حاجبيها وتستمر في المضي غير عابئة بسؤالي.
كنت أسال عمتي
فريال عن ستنا نفيسه ودائماً لا تجيب، ربما لم تكن تعرف أي معلومة. وهذه المرة اكتفيت
بالجلوس قريبة منها على الأرض، وكانون الفحم أمامنا نتدفأ حوله إذ كنا في فصل الشتاء.
كانت عمتي فريال
طويله، جميله، حنونة، طيبة القلب، وكان شعرها أسود فاحم مسترسل طويل وناعم، ودوماً
كانت أمي تجدل لها شعرها ضفيرة واحدة تمتد حتى نهاية ظهرها… وللمرة المائة: عمتو؟.
-شو؟.
-ليه سموه مَقام ست نفيسه؟.
وأخيراً تجيب عمتي
وسط دهشتي: ست نفيسه من سلاله النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولجل هذا عملوا ليها
مقام نتبارك فيه، فهمتي؟.
فهززت رأسي دلالة
على الموافقة والفهم، ولم أنسى طباعة قبلة على خد عمتي، ثم عدت إلى مكاني وأنا أقول
غير آملة في أي تعقيب من عمتي: خلاص عرفت يا عمتو ليه نضوي الشمع كل ما نمر من عند
مقام ستنا نفيسه، واشوف الشموع بين قضبان الحديد للنافذه، وستنا موجوده في مقامها،
والناس تبكي وتدعي وتمسح أياديها في الحديد.
جهاد إبنة أختي
داليا كما تعلمون أتت الحياة في خضم الدم والنار، لتصبح الحرب شاهدة على ولادتها..
وها هي تحملها أمي بين يديها، تضمها على صدرها، وهى لم تكمل بعد الشهر من عمرها. وها
نحن نتابع سيرنا على الأقدام، وفي عين داليا دمعه، فهل هى دمعة الخوف على حياة ابنتها،
أم على حياة زوجها المقاوم صالح الذي لم تره منذ اندلعت الحرب اللبنانية الإسرائيلية،
حيث لم يات ليراها ويرى ابنته شتلة الورد التي سماها جهاد كما أوصى أختي قبيل غيابه
“إن أتت ولد سَميه جهاد، وان أتت بنت سَميها جهاد”. وكان ذلك على ما يبدو
إيماناً منه بأن الجهاد واجب ندافع به عن وطننا، فأين هو الآن يا ترى؟. وعلى أي راحلة
او محور يقاتل؟. ولكن ما لنا إلا أن ندعو له وزملاؤه أن يحميهم الله، وندعو كذلك لهؤلاء
الشباب بيننا وهم يحملون السلاح ويقفون أمام الملجأ الجديد القريب من بيت عمتي الثانية
فيروز لحماية العائلات الموجودة بداخله. وفي
الملجأ أخذت عمتي فيروز شتلة الورد من حضن أمي، وما هى إلا لحظات حتى انخرطت الرضيعة
في بكاء مفزع، وقد علا صراخها على صوت الطائرات الإسرائيلية المحمحمة. فأسرعت أمها
بها وتنحت جانباً، فانهمر شلال اللبن في فم شتلة الورد، فهدأت واستكانت في إغفاءة ونشوة،
سكرانة لا تفيق، وكأن أمها أرضعتها خمراً وليس لبناً سائغ الشراب. وعن الملجأ الجديد
فلم نكن نعلم على وجه اليقين هل سيحمينا حقاً من غارات الغولة التي لم تنقطع أبداً؟.
أم سيكون مقبرة لنا ولشتلة الورد؟.
-أم ماجد اجلسي هون والولاد.
قالت عمتي فيروز.
وفي تلك اللحظة رأيت بناتها سوسن ولبنى وبرديس يقتربن ويقمن باحتضاننا مع طبع القبلات
على خدودنا أنا وإخوتي البنات وأخي ماجد، وكان النصيب الأعظم من القبلات لشتلة الورد،
مما أثار غضبها، فعلا صراخها من جديد طالبة اللبن سد الحنك.
-أكلتُم أم أحضر لكم الأكل.
قالت عمتي فيروز.
فردت أمي “أكلنا والحمد لله، ولكن أهم شي إعطي داليا ميّ تشرب بادي عليها التعب
لسه نفثاء يا عيني”. فناولت عمتي فيروز المي لأختي داليا فشربت حتى الثمالة، ثم
جلست الى الحائط لتكمل إرضاع شتلة الورد القابضة بيديها الصغيرتين على تدويرة الثدي
والحلمة الداكنة في فمها، وكان لا يزال في
عين أمها بحر من الدموع النابضة أوسع من بحر العيد.
من أجواء روايتي “بحر العيد”
إرسال التعليق