جمل يلعب في الوادجي

 

مع مشهد أول خيط للنهار. وهو يغازل ثقب في النافذة. أروح
في سبات عميق، ومع اقتراب ظهيرة يومي الثاني بنقطة 14 مراقبة.. أنهض من فرشتي،
ثقيل، بطئ، أتثاءب، ثم أفتح بالب المبيت، أتخطاه بانحناءة آلية، وأغلقه من خلفي،
أزيد من إحكام شال رأسي الأبيض، الجو على التبة بارد، والريح ملساء، ألتفت. فألمح
بوادي الجماجم جملاً صغيراً، أدهماً، يحرك ذيله القصير ويلعب، رافعاً قائمتيه
الخلفيتين، مندفعاً على سفح كثبان رملية، فأبتسم، وفجأة. يتوقف الجمل، يحني رأسه،
يرفس، ينهب الوادي نهباً، ثم يلقي بجسده على الكثبان الرملية، يتسلقها كذبابة
سوداء، ضخمة، المشهد مرح، ولكن، تنزل الأسئلة كعصا نقرزان، حلقات غليظة في سلسلة
حديدية ساخنة، تلهب مني العصب، تقتل النخاع، تجفف ماء الحياة.. ومعها أود لو أزعق
من فوق أعلى مئذنة “أين هى الطيور؟. بل أين صوت الحياة؟. وما مداه؟. ولمَ لا
تتكلم تلك الجبال الرواسي، النائية؟. هذا الضباب الشفيف، تلك التلول والكثبان
الرملية والتباب والهضاب والصخور والشجيرات، العصية جميعها عن الفهم، مع أنها في
متناول الرؤية والإدراك؟. ولماذا لا تبوح بأسرارها؟. وأية مفارقة تلك التي تفصل
بين الكائن الحي هنا، وبين مُحيطه الواسع، الواسع جداً؟. بل كيف تُفهم تلك الحهات
الأربع التي تشير إليها بوصلة المراقبة، في فضاء بكر. بلا سمات محددة، بلا معالم
حقيقية، فضاء مسحور، منسجم، يتشكل من الضوء والرمل والريح والبرد؟. فضاء قضى فيه
أبي وجنوده ما يشبه عُمراً.. في اليوم التالي، لليوم التالي، لليوم الذي تم فيه
الإستطلاع، قبل تنفيذ إحدى العمليات. وقتها. قال الضابط كبير الرتبة لأبي”إن
موافقة مبدئية تمت.. لقد التقى اقتراحك بالنوايا الموجودة، وأن الكثيرين أبدوا
ارتياحاً لتصديك لهذه المهمة، وأن ضابطاً كبيراً من هيئة الأركان قال عنك إنك تحفظ
سيناء عن ظهر قلب، وأنك قمت بالعديد من الدوريات في صحاري مصر، وأنك تعرف هضاب
الصحراء الشرقية ووديان الصحراء الغربية، وعندما تتوه دورية في الصحراء، فأفضل
مقتف للأثر هو أنت، وأنك تعرف المُدن من أضوائها عندما تبدو للمُحلق بالطائرة
الهليكوبتر، ومن آهلة مآذنها ومبانيها، كما تعرف المحافظات من تعرجات النيل، وضيق
واتساع المساحة الخضراء.. في المروحية تعرف بعد كم من الثواني ستشهق قمة جبلية،
وأي ممرات تخلو من دوامات الهواء.. تشم هبوب العاصفة، وتدرك من لون السماء متى يجئ
المطر؟”. وتمُر الأيام، وحينها. لم يدرك العدو، والحمد لله، قيمة أبي حالما
قام بآسره، ثم عودته من جديد بعد هروبه من هذا الأسر. والآن. أجدني بحالة تأمل:
كيف تستعين نقطتنا 14 تلك ببوصلة معدنية بدائية الصُّنع هكذا، مُصمتة، لتحدد بها
الإتجاهات الأربعة للمراقبة؟. وأية مراقبة تلك؟. وتراقب من؟.. أتراقب الخلاء
الأبدي القاهر هذا؟. أم تراقب الريح العاصفة، والطيور الكاسرة، التي غدت، من سطوة
الرمل والصخور، مُجرد زواحف؟. أم تُراها تراقب جيوش سرية خرافية تتحين لحظة
الانقضاض؟. أم تُراها تراقب الطبيعة الخرساء التي سلمت أمرها للخلاء والخلود،
وللرابطة الخفية التي تجمع بين الكائن الحي هنا، وبين مُحيطه الواسع، الواسع جداً؟.

الآن. يقفز الجمل من جديد، ويختفي خلف كثبان الرمال.
لعله أحد أحفاد الجمل الذي كان بمثابة
تطعيم لمعركة الإستنزاف
التي تلت هزيمة 5 يونيو الحزين عام 1967، وتدريب حي عليها‏،‏ وفيها استطاع جنود الكنانة،
تحويل الجمل إلى سفينة برمائية‏،‏ بعدما دربوه على السباحة في الماء، كما يمشي في
الصحراء، بل. وتكليفه بمهام قتالية‏..‏ واستطاع الجمل المبروك في معارك الإستنزاف|،
أن يعبُر قناة السويس، ويتسلق الساتر الترابي بميل يصل إلى 70‏ درجة،‏ ودخول “سيناء”،
والقيام بعمليات خاصة‏،‏ وكانت المهمة القتالية له، تبدأ من الضفة الغربية للقناة،
وقد امتطاه قائده من مؤخرته أثناء سباحته بالقناة، وحتى نقطة الوصول المُحددة للضفة
الشرقية للقناة، ‏والعودة مرة أخرى للضفة الغفربية. ولآن جنود الكنانة|، لم يكُن يملكون
في ذلك الوقت طائرات إنذار مُبكر “أواكس” لجمع المعلومات. فقد وظفوا
الجمل “سفينة الصحراء” ليكون جهازاً متنقلاً للمعلومات والإنذار، وكأنه
رادار محمول‏، وتحميله بجهاز لاسلكي، عجزت إسرائيل عن العثور عليه، لأنه ليس جهازا
ثابتا، وإنما جهاز متحرك، يبث بشكل دائم، ويرسل الرسائل المشفرة من مجاهدي “سيناء”
إلى القيادة غرب القناة‏.‏ ولآن الجمل يصدُر عادة صوت يُسمي “رعاء” خلال
سيره ووقوفه، ومن الصعب التحكُم فيه، ما يعوق إرسال الرسالة المشفرة، فقد تم
تدريبه على كتمان “الرعاء” الذي يصدره أثناء إرسال الرسالة. وتدريبه كذلك
ليكون قاعدة صواريخ، يحمل على متنه الصاروخ، منطلقاً بعد عبوره المانع المائي، عبر
المسالك الوعرة، بعيداً عن الحواجز التي أقامها العدو‏.‏ وقد برع الجنود المصريون
ومقاومي “سيناء” في طمس أثار الجمل على الرمال، بالأغنام التي تسير
كقطعان، وبطريقة لا تدعو للشك،.. فهذه أغنام ترعى وتبحث عن العُشب. وقد أطلق وزير
دفاع إسرائيل وقتئذ 1
على الجنود المصريين والمقاومين من أبناء “سيناء” الأشباح، إذ
كانوا يدمرون أهداف العدو بالصواريخ التي يحملها الجمل، دون ترك أي أثر خلفهم..
وكانت حيرة العدو وتساؤله، عن كيف تمكن هؤلاء الأشباح من نقل الصواريخ إلى الضفه
الشرقية للقناة؟. ولما لم يجد العدو إجابة، أخذ يستعين بخبراء الحرب الأمريكان،
ولكنهم أيضاً عجزو
ا
عن تفسير الأمر
، فهو في رأيهم مُستحيل،
وعندما توصل الأمريكان، بعد سنوات من الحرب، لحل اللغز على يد المخابرات العامه
المصرية، لم يصدقوا الأمر في البداية، فأرسلت أمريكا بعثه من كبار خبراء الحرب
لديها، ليروا بأنفسهم الجمل، وهو يسبح في الماء كأمهر سباح، حاملاً على ظهره
الصواريخ
.

من أجواء روايتي القادمة “نقطة 14 مراقبة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *