الأخير بعدعناء، ولمدة سنه وأربعة شهور؟.).
إستقبلني بالترحاب ثلاثة جنود من جنود النقطة، لباسهم مدني، أحدهما يلبس
ترنج، والثاني والثالث جلبابين، ثم تفرقنا على سطح مراتب الآسرة الإسفنجية الأربعة
المضغوطة، والمفروشة بالبطاطين الميري رمادية اللون، ورويداً رويداً التقطت أنفاسي،
بعدما رويت عطشي من قلة فخارية حمراء
مشطوفة الرقبة، وكذلك فعل الضابط “خميس” والعريف “محمود” من
بعد مني. وبعد ذلك. قدم الجندي المرافق لنا نفسه، وهو يشير إلى صدره العريض
“أنا. والعياذ بالله من كلمة أنا. العريف عيد عبد السميع، حكمدار المراقبين، وبلدي
المنصوره، وحاصل على دبلوم صناعة دفعة 1990″. ثم وهو يشير إلى شاب نحيل قصير
مربوع الجسد، بوجه أبيض مسحوب، وعينين سوداوتين ضيقتين كعيون الذئب، وملامح دقيقة مريحة
وشارب أخضر: وهذا هو المراقب خالد فواز، دمياط، وحاصل على دبلوم صناعة مثلي، أي في
الهواء سواء”. ثم التفت إلى شاب آخر ربعي، بعينين واسعتين عسليتين، مشروطتين،
ووجه أبيض نحاسي بلا شارب: وهذا هو المراقب أحمد وردان، الشرقية، وبدون مؤهل علمي”
والحمد لله. ثم رفع إصبعه تجاه شاب ثالث طويل ونحيف، وبشعر كستنائي أملس كثيف، ووجه
أبيض مشوب بالحُمرة، ذو عينين واسعتين خضراوتين، وملامح حادة، يزينها شارب بزغب خفيف،
يضفي على الوجه عذوبة وملاحة: زهذا هو حكمدار الإشارة على سن ورمح، أخوط جرجس ميلاد
حنا، القاهره، وحاصل على دبلوم تجاره.
وهكذا نتهى “عيد” من تقديم نفسه وزملائه الثلاثة، فوجدت لزاماً علئّ
تقديم نفسي أنا الأخر، وبعد أن أشرت إلى صدري الرياضي المنفوخ، والبركة في مواظبتي
على ممارسة التمارين السويدية من وقت لأخر. وأنا أخوكم في الله “كريم علم
الدين”، من القاهره، وحاصل على ليسانس حقوق”من جامعة عين شمس. وبعد
عبارات الترحيب والثناء، سحبني الزميل “جرجس” من يدي، واتجه بي إلى
الغرفة الأولى في بداية الدهليز، وبذات الإنحناءة الواجبة، دلفنا من الباب الذي لا
يسمح هو الأخر بالمرور المريح الآمن، لمن هُم في مثل طولي وطول “جرجس” وزميلنا
“عيد”. وفي داخل غرفة الإشارة وقفت على أرضية صخرية نظيفة من الرمل
والتراب، ولكني لم أستطع فرد قامتي، بل وقفت ورأسي متدلية على صدري، مثلما كان يقف
“جرجس” تحت السقف االصاجي المضلع الواطئ. وفي تلك اللحظة. بدا الجو خانقاً
بداخل غرفة الإشارة، وبارد شبه معتم. في حين فتح “جرجس” عن يمينه درفة خشبية
لنافذة مربعة صغيرة، تطل على جانب التبة الأيسر، فاندفع الضوء والذباب، وتيار خفيف
من الهواء، وفي نهاية الغرفة من جهة خلف التبة. ترك “جرجس” درفة خشبية
أخرى على حالها من الإغلاق. وقد بدت لناظريا جدران غرفة الإشارة، لا تختلف عن جدران
غرفة مبيت المراقبين، أي بلا طلاء، وبذات الشقوق والثقوب والخدوش.
جلس “جرجس” بآلية على الطرف الداخلي لسرير خشبي يماثل سرائر غرفة
المراقبين. وجلست أنا بهمود وإحباط بجوار “جرجس”، كتفي الأيسر يلامس كتفه
الأيمن، وقد بدت مرتبة سريره الإسفنجية أكثر تماسُكاً من مراتب آسرة مبيت المراقبين.
وقد لاحظت في زاوية الجدار المقابل، لمبة كاز مطفأة، يبعد عنها قليلاً “صليب”
خشبي مذهب كبير لامع، بنقوش بارزة، ومجموعة صور مقدسة، وجوه القديسين فيها جميلة بشكل
مبالغ فيه، وفي مقابل جلوس “جرجس” تربعت طاولة خشبية مستطيلة كالحة، يتصدرها
درج خشبي بنصف إغلاق، وعلى سطح الطاولة نصف الأملس رأيت حامل معدني برفين، يشغل
نصف الطاولة من الجهة الداخلية، وعلى كل رف جهاز لاسلكي داكن الخضار، علمت بطرازه
فيما بعد “أر 151 طراز 931:، بلوحة تشغيل زجاجية لامعة، على جانبها العلوي الأيسر
أربعة مفاتيح لامعة سوداء، وتحت كل مفتاح دائرة زجاجية فسفورية تتوهج كعيون القطط،
وبداخل كل دائرة، رقم أبجدي بلون قاتم، أخبرني “جرجس” بأنها لتوليف الجهاز
على أي تردُّد مطلوب، ومنه بالطبع نردد الكتيبة، وبجوار الحامل المعدني للاسلكي،
تربع إنجيل بغلاف أسود سميك خشن، وعدة مجلات مصرية، ومنبه صغير بلون حليبي، عقارب
توقيته حمراء. وأرقامه سوداء. سألت “جرجس” عنه، فأخبرني بأنه يعطي جرس
منبه كل ساعه في الظروف العادية، وحالة الإسرخاء العسكري، وكل ربع ساعة في حالة
المناورات، أو حالة الطوارئ، وحينها يتطلب الأمر منا فتح اللاسلكي، وإعطاء التمام
للكتيبة، وطمأنتها بأننا لا زلنا أحياء نرزق، أو في حالة يقظة قتالية تامة. ضد من؟
لا أدري.
من أجواء روايتي القادمة “نقطه 14 مراقبة”