
أشاركه الضحك على مضض، ولا يفوتني أن أرتاح بلا مبرر ظاهر لمقولنه “ما عفريت إلا بني أدم”. متذكراً مقولة أبي “لكي تعيش في أمان يا ولدي، لابُد أن تعيش القلق والخطر معاً، أي أن تغامر ولو قليلاً بأمانك وهدوءك المزيفين، وأن تخرُج من شرنقتك التي تتصور أنها تحميك، لأنك تسير بجانب الحائط، حفاظا على حياتك، وتنام هادئا وسط الإستكانة، واللا مبالاة بما يحدث حولك، مع أن سلوكك هذا هو الذي قد يلقي بك دون أن تنتبه إلى المجهول الذي عشت طوال حياتك تخاف منه”. وها هى جدتي لأمي، وأنا أقول لها بكل عفرتة “جنِّي المصوَّر” الذي فارقني، ولن يعود أبداً “إنني لا أخاف أي شئ في الدنيا يا جدتي الا العفريت والجن، فهُما غير قابلان للقتال، للنزال، للجرح، وربما القتل”. ولكن جدتي تضحك وتكشف عن اللثة الخالية من الأسنان وتقول “ما عفريت يا ولدي إلا بني أدم، وأنت جن مصوَّر، الجن نفسه يخاف منك”. وأضحك وأشعر بالفخر الطفولي أني قادر بقوتي المُتخيلة على إخافة مخلوقات النار التي ترانا ولا نراها، إلا أن جدتي في كل مرة تنهي حكايتها المثيرة بتفاصيلها، والدافئة في مكانها من القلب، ومن تحت اللحاف في التخت الذي يجمعنا في الليالي الشتوية، فأخُذ أجازة ولو قصيرة من مواصلة ضرب أمي لي، أو إعطاء الأوامر الصارمة من أبي وأخي الأكبر، وأبدأ الدلع والإستماع إلى حكاية عقلة الإصبع، والشاطر حسن، والنداهة، وأمنا الغولة، والمساخيط، وأبو رجل مسلوخه، وشيخ البحر، وغيرها الكثير، وفي كل مرة، كانت تنهي جدتي الحكاية بكلمتها الشهيرة الحكيمة التي لم أعرف قدرها إلا عندما كبرت “ما عفريت يا ولدي إلا بني أدم”، ثم تكملها مهددة “إللي يخاف من العفريت يطلع لُه”. وكبرت، فجاءت سنوات المراهقة، حيث التمرد والإحساس بالقوة الزائفة، وشعورك الهائف أنك تفهم في كل شئ، وبالأخص أكثر من هؤلاء الأباء والأجداد والقادة الذين ينتمون إلى عصر ما قبل الجليد، وكانت تلك هى النتيجة الطبيعية للهرمونات الذكورية التي تحولك من الطفولة البريئة إلى أعتاب الرجولة الصعبة. وقد كان الأمل ممتدا، عريضا، متفائلا، كالبحر عندما يرضى عنك، وتداعبك أمواجه بحنيَّة، وأنت بالسذاجة بحيث تجهل أنه غدار، ينقلب ما بين يوم وليلة، أو أكثر غدرا عندما تموج تحت هذا الهدوء الظاهري تيارات بحرية ترمي بك إلى البحر الأعظم الذي يبدأ بعده عالم “الغيلان”. أو تسحبك دوامته الخفية إلى الأعماق، حيث كل أنواع الظلام والخوف والموت، إن لم تكُن أذرُعك قوية كالأخطبوط، لتدفع بنفسك إلى السطح والحياة. وها هى السنوات وقد جرت سريعا، لأعرف أشياء ما كُنت أود أن أعرفها، وأواجه مواقفاً ما خطرت على بالي في أشد الليالي قتامة وأرقاً، وقد غادرني جنِّي المصوَّر، ليحل محله قطاً آليفاً، وديعاً، مُطيعاً، لا يموء إلا قليلاً، قليلاً جداً، وكُنت أتصور أن جني المصوَّر هذا، سوف يصاحبني إلى أخر أيامي، يحنو عليّ، ويشد من أزري، ويكون كما عهدته أقرب لي من حبل الوريد، ولكنه قبل أن يكون ثمن النضوج، وقسوة المعرفة، والواقع الذي يطيح بكل أحلام الطفولة وتفاؤل المراهقة.. هو ثمن حكايات جدتي المفزعة. ولكن لرحمة السماء، يظل إحساس ما، أنني قادر وغيري من الجنود على مواجهة حسابات الواقع، وتغيير مشيئة السياسات والأزمنة والأحلام والناس، وعلى إحداث تغيير ما، فرق ما، إبداع ما. وهأنذا، كأولى العطايا، قد كبرت، ورغم الخوف من العفريت والجن، والخوف من المجهول، والخشية من قسوة الحياة في هذا المكان، تبقى إرادتي المقاومة، ومحاولة إقناع نفسي بأني لا زلت جن مصوَّرً من زمن البراءة الأول، وأن “ما عفريت إلا بني أدم”.
من روايتي القادمة “ذئاب الصحراء”