أصعب شئ


كان أول ما أسعدني، هو أن “وضَاح” تمكن من تجاوز
محنة الحرب، فالقدر على ما يبدو رأف به، وعطف عليهً. وطالما يعيش في دارة على هذا
الشارع الرئيسي، فذلك يعني أن له مكانة مرموقة، ولعله يشغل منصباً كبيراً.. ومن
هذه الناحية. شعرت بالارتياح، وأحسست بأن الحظ حالفه تقريباً في كل شئ.. مع أنه
يعرف أن كرامة الإنسان لا تتوقف على مهنته، أو منصبه، بقدر ما تتطلب الفطنة، وقوة
الطباع.
وهأنذا. أتطلع إلى
الواجهات الضخمة المتعددة الطوابق من القرميد الأحمر الداكن والفاتح، وشاهدت
الشرفات الكثيرة، وحاولت تصور الشقة التي يقطن بها “وضاح”. بشرفة على
أحد الطوابق العلوية، فظني أن تلك الشقق أفضل… ضوء الشمس فيها أسطع، والهواء
أكثر، والأهم. أن الرؤية من علِ أفضل، فبوسع المرء أن يشاهد نصف “بيروت”،
إن لم يك كلها. فقبل زهاء عشرة أعوام. حللت ضيفاً أنا وزوجتي وبنتاي على صديقي
اللبناني في مدينة “صيدا”، فأعجبت بالتطلع من الشرفة، مع إن تلك الشرفة
لم تك عالية، فهى في الطابق الثالث لدارة من أربعة طوابق.. ومع ذلك. كيف سيستقبلني
ولدي المفقود “وضاح”؟. عن نفسي. سأطرق الباب طبعاً في بادئ الأمر، لن
أطرقه طرقات لحوحة عالية بقبضة يدي. بل الأفضل أن أنقر عليه بطرف إصبعي، كما
أوصتني زوجتي قبيل سفري، وعندما يفتح ولدي الباب أمامي، يجب أن أتراجع خطوة، ولعل
من الأفضل أن أخلع حذائي مسبقاً، فلا يجب تدنيس المكان بالغبار العالق بحذائي.. في
المدخل، أو على السلم.. وعندما يفتح لي الباب، سأسأل في البداية عن صاحب الشقة، هل
يسكُن هنا؟.. وحبذا لو فتح الباب “وضاح” نفسه.. ولعلي سأعرفه رغم مرور
زهاء 35 عاماً في المنفى، وهى فترة يمكن لأي إنسان أن يتغير خلالها إلى حد تتعذر
معه معرفته. ورغم ذلك، سأعرفه، فأنا أتذكر تلك الشامة على خده، كما أتذكر ملامح
أبيه الحقيقي جيداً، والإبن لابد وأن يشبه أباه في شئ. ولكن. ماذا لو فتحت الباب
زوجته، أو أحد أولاده؟. ولكن. كلا. أطفاله لا يزالون صغاراً في أغلب الظن. ولكنه
احتمال وارد. فإذا كان الطفل في السابعة، أو العاشرة، فما الذي يمنعه من فتح الباب
للضيف؟. وعلى أية حال. لا مشكلة. سأذكر إسمه،، وأنا أعلم أصعب شئ سيحل في تلك
اللحظة. فأنا أعرف مدى ما ينتاب المرء من فرح وقلق عند لقاء إنسان يعرفه من زمان
بعيد. بعيد جداً. آنئذ ستستولي عليّ الذكريات والدهشة، وحتى الإضطراب بسبب اكتشاف
عجيب. هو أنني كنت أعرف شخصاً آخر غير هذا الواقف أمامي.. أعرفه من ماضيا البعيد،
ولن يتمكن أحداً من بعثه واستحضاره، عدا ذاكرتي التي ظلت صافية وقوية رغم تعاقب
السنين والأحداث والحرب، وبعد ذلك على الأرجح. سيدعوني من اعتبرته ولدي لدخول
الشقة، وإن كنت لست بحاجة لتلك الدعوة.. لآني سأجتاز العتبة بسرعة.
وأعترف بأنني تعودت في الدارة  ألا أخلع حذائي الجلدي، وأنا أدخل مسرعاً،
وأتوجه إلى المائدة، أما هنا، فيجب أن أخلع حذائي قبل كل شئ، خاصة أن جواربي
جديدة. لن أشعر منها بالخجل.
وبعد ذلك. سيدور بالتأكيد بيني وبين “وضاح” حديثاً
سهلاً، فأنا رغم تفكيري الطويل، لا أتصور كيف سيبدأ معي ولدي ذلك الحديث، وبم
يبدأه. ولكن. لنترك ذلك للمستقبل. والآن أتخيله يدعوني للمائدة، وآنئذِ. سأعود إلى
حقيبتي التي تنبعث منها رائحة طعام زوجتي، ينتظر الساعة التي يؤكل فيها.. ومع أن
المدن لا تفتقر  إلى الأطعمة، فإن مائدة
“وضاح” سوف تتسع بالتأكيد للفطير الريفي الذي يفتقر إليه أهل المدن،
ولعلبة عسل نحل، ولزوج من الحمام المشوي على ا

  من أجواء روايتي “بحر النار” وهى من الأدب الذي يدور حول فلسطين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top