العائد به من أجازته الميدانية؛ يتقدم نحوه بمحياه الذاوي؛ وعلى شفتيه إبتسامة
مفعمة بالحفاوة؛ بالإحترام؛ بالمهابة؛ ضارباً الأرض بكعب فردة بيادته اليسرى؛
فارداً كفة الأيمن بمحاذاة جبهته؛ وقبل أن يتناول عنه حقيبة يده الجلدية الأنيقة: حمد
لله علي السلامة يا افندم.
-الله يسلمك؛ كيف أحوالكم؟
-الحمد لله يا افندم.
-جميل؛ هيا بنا.
-إلى أين يا افندم؟.
-نقطه 14.
ترتسم الدهشة على وجه
الجندي لبرهة؛ وقد بدت الشمس في مغربها يشطرها خط الأفق إلى نصفين؛ تنز أشعتها في
لون الدم المحتقن؛ ثم بانتباهة: تمام يا افندم.
يستقل القائد الجيب الكاكي؛
تثب؛ تتراجع؛ تنفث دفعة دخان؛ تستدير نحو الشمال؛ قافلة من البواخر عن يسار
العربة؛ تعبر ببطء نحو الجنوب؛ آلاف من قروش الضوء الراقصة؛ تقيم حفل أسطوري من
باليه بحيرة البجع على مياه القناة؛ المياه زرقاء؛ فيها يود وانطلاق ورحيل؛ جبل
عتاقة على الجانب الآخر؛ لا أثر للغبار فوقه؛ لطول ما صفعت صخوره رياح الشتاء
المنصرم؛ فبدت كمجموعة من الرجال تاهت في الصحراء؛ ثم وقفت تسدد النظر في اتجاه القائد
وسائقه.
تعدو العربة وسط فراغ
الصحراء وصفرة الرمال في تحدي خفي للكون؛ ويبقى: هل يصبح المبصر كالأعمي في مواجهة
هذا اللا نهائي؟.
لولا إلتفاتة رأس السائق
بين فينة وأخرى لظنه القائد في إغفاءة.
العربة بمفردها؛ لا يطرأ أي
تغيير على وضعية السائق الصامت؛ منعطف عليه عامود إسم بقعة وصول؛ يتسع الأفق وراء
منخفض يرحب بكآبة؛ هليكوبتر ترتفع في خط منحنى إلى مركز السماء؛ تبدو كنقطة بيضاء؛
تغير اتجاهها؛ تهوي؛ كأن الطيار فقد السيطرة؛ تستقيم؛ تطير في اتجاه معاكس؛ يختفي
صوتها.
ينزل الليل هادئ؛ ناعم؛ كوبر
القطيفة؛ يخفي ملامح أشياء؛ يذيب رمال؛ صخور؛ علامات؛ بقايا نهار؛ يخيم ظلام؛ يضيع
في غروب بعيد؛ تقترب العربة من الممر الجبلي؛ وبداخله: ماذا لو أحصينا عدد من
قتلوا هنا دفاعاً عن سيناء؛ ومنذ أن نزلها الإنسان؛ بالتأكيد سيصدر بهم بياناً
تستمر إذاعته مائة عام بلا توقف؛ نموت ولا ندرك آخرهم؟..
يبتسم القائد للخاطر؛ تنزلق
العربة فوق المنحدر المعتم؛ المحاصر بسلسلة الجبال؛ وبين الحين والحين؛ تحاول
تفادي الإرتطام بأرنب بري غشى عينيه للحظات الضوء الباهر لفوانيس العربة.
بعد العبور؛ يشير القائد للجندي
بالإنتباه لحقول الألغام على الجانبين؛ فيبتسم؛ وهو يشير إلى رأسه:إطمئن يا افندم؛
هنا الخريطة.
تبدو العربة كشرارة ضئيلة من الحياة؛ والليل
ساكن؛ لا يكشف سراً ولا خبراً؛ يكفنه ظلام؛ والوادي في غطيط هادئ عن يمين العربة؛
يبدو كوعاء ضخم من الرمال والبروزات الصخرية؛ يزداد حفيف شجيراته السوداء؛ روائح
موت من كل جانب؛ وثبات أشكال غامضة؛ هياكل دبابات وعربات محترقة؛ أشباح قصيرة؛
مظلمة؛ هسيس مخيف؛ أصوات صراصير؛ جنادب؛ عواء ذئاب؛ نباح كلاب؛ وعن يسار العربة؛
تتوالى تباب هائلة؛ وجبلاً يفضي إلى جبل فوقه؛ كأنها سلالم تقود إلى السماء؛
سوداء؛ متجمدة.
يمر وقت عصيب؛ غير قصير؛
يأمر القائد بإطفاء الإنارة الأمامية والخلفية وإسكات موتور العربة؛ والإكتفاء
بقوة دفع العجلات المنزلقة على المنحدر: لماذا يا افندم؟.
-حتى لا يشعر بقدومنا أفراد
النقطة.
تصل العربة الهوينى إلى
مكان البرميل الصاجي على جانب الطريق؛ الدال على مكان النقطة؛ البادية على ضوء
النجوم كسنام فوق ظهر جمل بارك في انتظار صاحبه؛ أو كعلم من أعلام الكون؛ أو كقطعة
قضت من صخر تتمنع على من يريد الإستيلاء عليها؛ ويبقى: هل تزحزحها ذات يوم هبة
ريح؛ ثم تأت هبة أخرى فتزحزحها أكثر؛ ثم تهوي مع الهبة الثالثة؛ فتحدث دوياً
هائلاً؛ وهى تتدحرج بقوة مندفعة إلى القرار؟ أم تبقى في مكانها رغم الزوابع
والأعاصير ونوائب الدهر؟.
يترجل القائد في هدوء؛ يتقدمه الجندي؛ وهو يشير
للقوس المعدني الدال على المدق الصخري الصاعد بلولبة مخيفة.
يتخطى القائد صهريج للمياه
عن يمينه؛ ثم يغوص من فوهة القوس؛ ويتقدم على الرمال لعدة أمتار؛ ثم يصعد على
المدق الوعر.
بعد عناء يصل القائد إلى مبني
النقطة الطفلي بنصف انتصابة؛ يتبعه كظله سائقه؛ وفي لهاثه: كان الله في عونهم.
-من يا افندم؟.
-زملاؤك.
وسط العتمة والسكون: وزملائي
يا افندم في سابع نومة؟.
بلهاث: سنرى؛ خطي ورائي؛
وخذ بالك من السلك الشائك والخندق.
بخطوات حريصة؛ وتحت ضوء
النجوم التي تتغامز فيما بينها؛ وترسل بومضات قصيرة؛ لاهية؛ يكاد القائد أن يزحف
بمحاذاة حائط النقطة؛ ومن الداخل يتسلل إلى سمعه سرسوب من أغنية تلون المساء؛
فيميل الجندي على قائدة: مزاجهم عال يا افندم؛ ولا على بالهم.
يمتعض القائد من إشارة سائقه؛
ولا يلتفت إليه؛ ويمضي في طريقه؛ يغريه الهدوء الشامل؛ وخلو المكان من الحراسة؛
عازماً على سحب منظار الميدان من على منصته والهبوط به خلسة؛ وعندما يرمي القائد
نظرة صقر ينتفض فزعاً: ماهذا؛ هل باعوه؟.
-من يا افندم؟.
-المنظار يا بجم.
يكتم الجندي ضحكة كادت أن
تفر من عقالها؛ وهو يهمس: مؤكد باعوه يا افندم.
ينظر القائد إلى تعليق
الجندي في غضب؛ ويأمره بمغادرة المكان؛ وانتظاره عند العربة.
يهبط الجندي منكس الرأس؛
وقبل أن يتجه القائد إلى داخل الموقع؛ يفاجأ بصيحة من خلفه: قف؛ من أنت؟ إثبت
محلك؛ ولا حركة.
يلتفت القائد بذعر مكتوم؛
ثم بهدوء مفتعل: أنا قائدك؛ أنا قائدك.
-كلمة السر؟
-برقوق؛ برقوق يا جندي؛ برقوق.
يدق الحارس الأرض بكعب فردة
بيادته اليسرى؛ مع خفض البندقية على يده اليسري؛ ووضع يده اليمني علي البندقية؛
قبل أن يبادر قائده برباطة جأش: المنظار يا جندي؛ أين المنظا؟.
-في المبيت يا افندم.
-المبيت؟.
-نعم؛ صيانة يا افندم؛
صيانه.
-وأين قائدك؟.
-في المبيت يا افندم.
-صيانة هو الآخر؟.
بجدية: لا يا افندم.
يرسم القائد ابتسامة كورق
السوليفان؛ ثم: والمبيت؛ في مكانه؛ أم صيانة هو الآخر؟.
يشير الحارس بتقطيبة: في
مكانه يا افندم؛ في مكانه.
وهو يتقدم إلى الداخل: إنتبه
لحراستك.
يولج القائد خطواته الحثيثة
في الممر الضيق الموصل للمبيت؛ ينحني تحت السقف الصاجي الواطئ؛ وعند عتبة باب
المبيت الخشبي؛ المشرع إلا قليلاً؛ يقف بجانب؛ فلا ينتبه إليه أحد من أفراد المبيت
المنهمك اثنين منهم في تقطيع العجين إلى كرات ورصها على اللوح الخشبي المبدور
بالردة؛ وانهماك اثنين آخرين في تنظيف سطح طاولة خشبية في ركن المبيت؛ وبعد قليل؛
ينتبه قائد النقطة؛ وهو يجلس على حصيرة رثة ضاع زهاء لونها إلي الأبد؛ إن كان
للأبد أخر؛ ويقوم على صيانة المنظار وتنظيفه من الغبار العالق به؛ وفي ثانية يهب
واقفاً بالتحية العسكرية؛ يتبعه باقي الأفراد المذهولين من وجود قائدهم العام فجأة
معهم؛ وفي هذا الوقت من الليل.
ينحني القائد أكثر على عتبة
باب المبيت؛ لتجنب إرتطام رأسه بالحلق؛ وعلى ضوء اللمبة الكاز المعلقة بمسمار صدئ
على الحائط العاري؛ الباهت؛ الخشن؛ مكشوط الطلاء والمملوء بالشقوق والثقوب يسلم القائد
يداً بيد على قائد النقطة وجنوده؛ ثم يربت على كتف قائدهم؛ يثني على يقظته ويقظتهم
معه؛ وخاصة الحارس الذي قام باستدراجه حتى وقع في المصيدة التي نصبها له ولسائقة بإحكام؛
منذ أن شاهدهما وهما يصعدان المدق كأشباح الليل؛ فأفسح لهما؛ متربصاًً بهما من ثقب
الجدار الصاجي لبرميل الحمام الموضوع في طرف النقطة؛ في الجهة العكسية لممر الصعود
والهبوط.
يقوم القائد مسروراً
بالتفتيش على جهازي اللاسلكي؛ كود الشفرة الورقي؛ البنادق الآلي والرشاش؛ الذخيرة؛
البطارية الشمسية لزوم شحن اللاسلكي؛ المنظار؛ التعيين القتالي؛ جراكل السولار
والكاز؛ جراكل المياه؛ أدوية علاج الجروح والحروق ولدغات العقارب والحيات؛ ولا
يفته أن يستدعي سائقه ليشاركا معا الجنود في تسوية الخبز على الفرن الطفلي؛ وتناول
العشاء من الجبن الأبيض والخبز الطازج والختام بالشاي الأسود المغلي على جمر
المنقد الفخاري؛ البادي كحشرة كبيرة نافقة على التبة المبدوره بالعتمة؛ بنطف
الخضرة؛ بضحكات القائد وجنوده؛ وسرسوب جديد من أغنية تلون المساء.