كانت ولادتي في قرية “بشيت”،
ولا أعرف في أي عام ولدت على وجه التحديد. فشهادة ميلادي فُقدت مع أبي حين موته في
الحرب. وهذه نقطة مُحيرة في حياتي. أين كان قد خبأ شهادة ميلادي؟، وعلى أية حال،
كل ما عرفته من أمي. أن ميلادي كان أثناء الحرب العالمية الثانية في مطلع
الأربعينات، ذات ليلة شتوية شديدة البرودة والمطر. وكان أبي وقتئذ “خبازاً” في معسكرات
الإنجليز. أما أمي. فكانت فلاحة عادية تُساعد أبي في الأرض، لما أصبح مزارعاً لبعض
الوقت في عملية الحرث والبذر، وفي مواسم الجني والحصاد. وكان لي عم إسمه “شهاب”
تمت تصفيته من جانب عملاء الإنجليز، لآنه كان من ثوار القرية. أما عمي الأصغر “شاكر”،
فقد أعدمه الإنجليز نتيجة حيازته للسلاح، وكان ذلك قُبيل اغتيال عمي “شهاب”
بعدة شهور، وهذان العمان كانا قد أوجدا في الدارة حالة وطنية مُتفجرة، إضافة إلى
أبي الذي كان يرأس نادي “الجمعية الزراعية” بالقرية، والذي كان يتوجه
باستمرار ضد وجود الإنجليز.
كان لأبي أصدقاء كُثر من
القرية، ومن خارجها، يترددون على دارتنا، ويعقدون الإجتماعات، أما جدي والد أبي.
فكان متعلقاً بالأرض وحريصاً عليها حرصه على الحياة. وفي دارتنا كنا نحتفظ بأوراق
الأرض بحرص بالغ حرصنا على الحياة ذاتها، مثلنا في ذلك مثل باقي العائلات
الفلسطينية التي هجرت قراها تحت وطأة الإحتلال والتهجير. وهناك حادثة يمكن أن تكون
غير مستوعبة، ولكني أود ذكرها، فربما يكون لها دلالة ما. فقد قام جدي لأبي بشراء
قطعة أرض من “يهودي” خارج حدود القرية، بعد أن ضايقه كثيراً، واضطر هذا
لبيعها، وتلك الواقعة استوقفت المحتلين طويلاً، فقاموا بتفتيش الدارة، ورأوا أوراق
الأرض، وقالوا “هذه أرض مبيعة من يهودي”. قلنا لهم “نعم. نحن اشترينا
هذه الأرض منه”. فقاموا بطردنا تحت تهديد السلاح. وفي مثل هذا الجو نشأت،
وتعلمت معنى فقدان الأرض، وبعد انتهاء الحرب، بدأت رحلتي المضنية في البحث عن ولدي
المفقود، ومحاولة استرداده، متنقلاً من مكان لمكان، وعندما أتتني دعوة
“وسام” إبن أخي للسفر إلى مدينة “بيروت” بلبنان، فرحت فرحاً
شديداً، وتهيأت للسفر. بعدما قلت لزوجتي “يبدو أني سألتفي أخيراً بطيري
السابح في ملكوت الأرض”. فعقبَت قائلة بفرح “ماذا تقصد. هل أتاك خبر عن
وضَاح؟”. فأجبتها “نعم. يبدو أن الله استجاب أخيراً لدعواتك
ودعواتي”. فقامت زوجتي بتجهيز حقيبتي في اليوم التالي بما لذ وطاب، فحملتها
متوجهاً إلى “بيروت”، وهناك بدا الهواء
مُنعشاً، والوقت صباحاً، وأنا أحشر بدني بصعوبة في السيل البشري المندفع عبر بوابة الخروج من
محطة الباصات، فوجدت نفسي في ساحة غاصة بالعربات، وقد تناثرت جموع الناس في جهات
عديدة، فتباطأت خطواتي المترددة أصلاً، فأنا لا أدري أي طريق أسلك؟. هل أسير على
الطريق الممتد من المحطة إلى قلب المدينة؟. أم أتوجه نحو الباصين اللذين ينتظران
في مدخل الساحة؟. وهكذا. توقفت متردداً، ووضعت حقيبتي العتيقة ذات الزوايا
المعدنية الصدئة على الأسفلت الساخن المبقع بالزيت الأسود، وأخذت أتلفت وأفكر بأنه
لعل من اللازم الإستفسار من أحد عن العنوان الموجود في جيبي، فلا يكفي أني حفظت
هذا العنوان عن ظهر قلب. فأخذت اتصفح وجوه المارة، لأختار من بينهم شخصاً أسأله عن
العنوان، وقد بدت “الساحة” تعج بالناس، إلا أن الجميع كانوا يمرون بي،
وكأن لديهم أشغالاً لا تقبل التأجيل، فظللت أمداً طويلاً أتطلع في وجوههم.. حتى
عزمت على أن أخاطب شخصاً كهلاً. ربما هو في مثل عمري تقريباً. كان يقف بجوار
“كشك جرائد”، وهو يُلقي نظرة على جريدة ابتاعها،
فاتجهت إليه. قلت: أرجو أن تخبرني كيف أجد شارع “7 عيون”. هل يجب أن
أركب الباص، أم بإمكاني الوصول إليه مشياً؟. فرفع الرجُل وجهه عن الجريدة، فلاحظت،
أو خُيل لي، أنني أجد أمارات الإستياء على هذا الوجه، وفي العينين اللتين تطلعا
نحوي بصرامة عبر النظارة الطبية السميكة. وللحق. لم يجبني الرجُل في الحال بشئ. ربما
أراد أن يستعيد في ذاكرته موقع الشارع المطلوب، وربما أراد أن يتفحصني بسترتي
الرمادية، وقميصي الأبيض، وكل أزراره مشدودة حتى الياقة، رغم الحر الشديد…
وبتأثير هذه النظرة المتفحصة، شعرت بالآسف، لآنني لم أشد في الدارة ربطة العنق
المعلقة منذ سنوات على مسمار مثبت في الدولاب خصيصاً لهذا الغرض.. إلا أنني لم أحب
ربطة العنق، بل ولم أجيد شدها، فارتديت وأنا أستعد للسفر نفس اللباس الذي أرتديه
في الدارة أثناء الأعياد “بذلة رمادية تكاد تكون جديدة، وقميصاً أبيض من
القطن المصري شائع الموضة والصيت، وهو قميص أرتديه للمرة الأولى، مع أنني اشتريته
من زمان. ولكن الجميع هنا يرتدون زياً آخر. عبارة عن فانيلات خفيفة بنصف كُم، أو قُمصان
بيضاء مع ربطات عنق. ربما بمناسبة عطلة نهاية الأسبوع”. وفكرت بأنه لا بأس.
فلباسي البسيط مقبول، وهل همومي قليلة لأفكر طويلاً بمظهري الخارجي؟.
من روايتي (صاحب الشقة)