كفأر مذعور
من قطة براها الجوع، وليت هارباً، ففكرة أن تموت بسبب جمعك للحطب من الوادي الممتد
كالصراط، والمُحاط بالجبال والتباب والتلول، الشاخصة نحوك كالعفاريت، هى فكرة
سخيفة، ومفزعة بذات الوقت، فأتى ركوب بساط الريح، والعودة بهرولة، هو الحل الأمثل،
للنفاذ بجلدك من الموت فطيس، أي بلا ثمن، فالبتر الفوري للعضو الملدوغ استحالة، وحتى
إن فعلت، فلن يتسع لك الوقت، فقلبك سوف يتوقف في غضون عشرة ثوان بتأثير سم
“الطريشه” القاتل 1.
لم تكن تلك
الحية المقرنة” في هذا المكان المقفر الموحش، هى الخطر الوحيد المحدق بك، والذي
حذرنا منه الرائد “إبراهيم عسقلان” رائد عمليات الكتيبة، قبل يوم واحد
من ترحيلنا إلى نقاط المراقبة الجوية بالنظر، بل كان هناك خطر أخر داهم، وهو
احتمالية تسلل أي غريب في غفلة منا، إما بغرض سرقة سلاح النقطة، أو الثأر من
جنودها، إن وز أحدهم شيطانه، وحلت بدوية في عينيه، فسعى إليها، واهماً علاقة معها.
كان التحذير
الثالث أشد وطأة، وهو خاص بالنقاط البعيدة عن مقر الكتيبة بمئات الكيلو مترات، ومنها
نقطتي، إذ شدد الرائد على ضرورة الإنتباه لكميات الطعام والمياه المتاحة، إذ أن
التعرض لخطر الجوع، أو الظمأ، هو أمر وارد بشدة، خاصة في ظروف المناخ الصعبة، التي
تحول بين عربة التعيينات، وبين وصولها بأمان لمقر النقطة.
أذكر حين انصرف
عنا رائد عمليات الكتيبة، تاركاً تحذيراته الثلاثة من خلفه، أن وجدت نفسي، كما لو
أنني طفل شاخ قبل الميلاد، أو رجُل داهمه النسيان، دون أن يتمكن من النظر البسيط على
محيط من الذكريات خلفه، مهاجراً حياة الدعة والسكينة، إلى حياة تشبه حياة الحيوان
في الغابة، حين يعيش على قدراته وغرائزه، يستخدمها في الدفاع عن نفسه، وفي الحصول على
غذائه. وحينها قلت لنفسي ونحن في طريقنا للمبيت بطرف الساحة الرملية للكتيبة (ماذا
بعد؟). وفي المبيت. أخذنا نتمدد على آسرتنا المعدنية بفرشاتها الخشنة، والقلق على وجوهنا
له ملمس ولزوجة، والصمت مُثقل برائحة الرمال، وفي تلك اللحظة ذهب العريف “”محمود
علم الدين” ليملأ فنطاس عربة المياه من محطة تحلية المياه البعيدة عن مقر
الكتيبة بحوالي خمسة كيلو مترات، وبعدها. ما لبث أن حل الظلام كلص غريب، لا أرغب
في وجوده وسط هذا الخلاء المقبض لتلك الصحراء الشاسعة، سالكاً ممرات وعرة إلى روحي.
وعبر شروخ جانبية للنافذة الزجاجية المغبرة للمبيت، تناهى لسمعي صوت موتور عربة الفنطاس،
وهو يئن ويبتعدً حتى تلاشى في الفراغ الداكن.
كانت وجبة
العشاء في هذا اليوم، لا تختلف في نوعها وكميتها عن وجبة الفطور، لكل جندي (بيضة مسلوقة،
ومكعب جبن مثلثات، ومكعب مربة برتقال، ورغيف خبز أسمر قديد بارد). وبعد عودتنا من
أمام المطبخ، وتخطينا لعتبة المبيت، همست بصوت متواطئ لزميلي من خلفي (إقفل الباب).
كنت أُريد من
الباب الخشبي المهترئ الملئ بالثقوب، أن يفصلنا عن خلاء ساحة الكتيبة المسكون بالعفاريت،
وسط صفير الريح البادي كنواح الأرامل، مما حدا بي منذ لحظات، الإكتفاء بتفريغ
مثانتي على جانب من الجدار الخلفي للمبيت، والعودة بهرولة، وضربات قلب متسارعة،
ولعل السبب في ذلك، هو حكايات جدتي “حليمه” أم أمي، وأنا طفل صغير عن
جنية مياه الترعة التي خطفت الوله “عويس”، والعديد من فتيان وفتيات
القرية، واالقفز بهم في المياه، وعدم عودتهم مرة أخرى. أو حكاياتها عن الساحرة
الشريرة “بابا ياجا” التي تخطف ضحاياها، وتدق عظامهم في هونها الملتهب.
أو حكاياتها عن “أبو رجل مسلوخه”، و”شيخ بحر السندباد”، إضافة
إلى”عفريت الطاحونة المهجورة”، وغير ذلك كثير من حكايات يشيب لها رأس
الغراب. ومن العجيب، أني كنت أستمتع حينها بسماع تلك الحكايات المخيفة بتفاصيلها،
وفي ليلة الحكي، أحرص على ألا أفارق صدر جدتي تلك أثناء النوم، أو صدر أمي في بعض
الأحيان.
من أجواء روايتي “نقطة 14 مراقبة”