عودة البطل

عودة ال

      كان الجُندى
المصرى ( ياسين ) .. لا يتجاوز الثانية والعشرين من عمره .. ومع تباشير أول ضوء لأحد
الأيام .. يشاهد من أعلى التبة (1) – سرباً من طائرات إسرائيلية حربية .. قادمة من
ناحية الشرق .. يطير بسرعة فائقة .. وعلى مسافات مُنخفضة جدا ً! …

     يقوم – على الفور – بالإتصال بقائد وحدة دفاع
جوى .. تُلاصق موقع الكتيبة .. حيث يفاجأ بسرب ثان من الطائرات .. يتجه إلى الغرب
.. فيعاود الإتصال .. ولكن .. دون جدوى …

      تقوم بعض
طائرات العدو بدوران حول الموقع .. ترمى قذائفها ! .. فيقوم – بالعين المجردة– بمشاهدة
أول شهيدين فى الموقع .. إنهما الجنديان اللذان ذهبا لإحضار طعام الإفطار .. حيث
سقطت قذيفة إسرائيلية بينهما .. فى الوعاء الذى يحملانه !.. فيتأكد أن الحرب قامت..
وأن العدو قد تمكن !

      القنابل تنفجر فى كل مكان من أرجاء الكتيبة
.. وأصوات الشظايا تصفر .. غاضبة – كالسيوف – فى كل إتجاه ! .. طائرات للعدو على
إرتفاع منخفض – جداً – تطلق صواريخ كالسهام النارية .. ولولا أن أرض الكتيبة ..
هشة .. رخوة .. تبتلع أكثر الصواريخ والشظايا .. لأبيد كل جنود الموقع ! …
¢

      يُشاهد ( ياسين ) طابور دبابات إسرائيلياً ..
قادماً من جهة اليمين .. زاحفاً – خلال الكثبان الرملية – فى إتجاه الكتيبة …

      تُدير إحدى الدبابات بُرجها تجاه ( ياسين )
 .. يخرج وميض من فوهة مدفعها .. وصفير
دانة يشق الهواء …

      يقفز
( ياسين ) بعيداً .. يختفى خلف صخرة .. تمُر الدانة من فوق رأسه مباشرة .. ونظراً
لسخونتها الشديدة .. وسرعتها .. تخلخل الهواء فوق رأسه .. وتضغط الهواء عليها .. من
أعلى إلى أسفل .. فيشعر كأنها خلعت رأسه من بين كتفيه .. وجعلته يتحسس جسمه .. غير
مصدق أنه لم يُصب !

      يخرج – مرة أخرى – من وراء الصخرة .. لا
ينتظر أوامر .. لا يتصل بأحد .. يأخذ القرار من نفسه ! .. يُشغل مدافع هاون ثلاثة –
فى أعلى التبة – تجاه طابور الدبابات .. صحيح أنه لايتمكن منها بصورة مؤكدة .. إلا
أنه يُعرقل سيرها .. أو مواصلة تقدمها .. حيث تبتعد فى نصف دورة .. حتى يخفيها
الغبار الكثيف .. مطلقة نيرانها فى جميع الإتجاهات .. وبصفة مستمرة ! .. وفى لحظات
.. تعود الطائرات الإسرائيلية .. لتدك الموقع دكاً ! … ليسرى ظلاً كئيباً من
الوحشة والإنهزام .. ثم يتحول الجو – كُله- إلى اللون الأصفر .. وكأن الكتيبة
ضُرِبَتْ بالغازات السامة .. وهى – فى الحقيقة- لم تضرب بها .. لكن .. الحجم الضخم
من القنابل الذى ألقى على الكتيبة .. وكم الذخائر التى إنفجرت .. كل ذلك ,, يلون
الجو باللون الأصفر .. مع رائحة نفاذة للبارود !

      تتجمد الدماء فى عروق ( ياسين ) .. يفقد
الإحساس بالزمن .. الإحساس بالرهبة والخوف يتلاشى .. فلا يُمكن أن يكون ما يمُر به
حقيقة .. لابُد أنه يحلم .. حلماً كئيباً .. سخيفاً .. أو أنه يُشاهد فيلماً
سينمائياً من أفلام الحرب ! .. أبطاله يمثلون أمامه .. أما هو .. فيشاركهم مشاركة
وجدانية فقط !

      الإحساس بالإنفصام – عما حوله – يعطيه
القدرة على الحركة.. كأنه كومبارس فى المأساة الرهيبة ! .. فيسابق الزمن والعمر ..
للتسلل خلف التبة .. وهناك .. يُفاجأ بباب (  قبر )  صغير!
.. وفى لحظات .. يدخل من فتحته
.. يغلق الفتحة بكومة من رمال !

      يمكث داخل القبر ( ست
) ساعات كاملة ! .. يسمع خلالها أصوات مُحركات .. دبابات.. مُدرعات إسرائيلية ..
وأصوات عبرية تعطى الأوامر للجنود !

     يحس
– بالقبر – أنه داخل الأراضى الإسرائيلية .. لا الأراضى المصرية !
.. ومن داخله .. يسمع
من يأمر الجنود المصريين – بلهجة شامية – بخلع أحذيتهم ونزع أربطتها .. ويبدأ
الإسرائيليون فى تقييد الجنود – بأربطة الأحذية – من أيديهم خلف أجسامهم ! …

      ينتاب
( ياسين ) خوف شديد على مصير أسرته الصغيرة من بعده .. فالزوجة تركها على وشك
الوضع .. وطفله الوحيد عمره عامان .. وأم وأب مُسنان فى حاجة ماسة للرعاية الصحية!…

      يروح ( ياسين ) يفكر : ( تُرى كيف يواجه
أمى وأبى الحياة من بعدى ؟! .. فأنا ميت لا محالة.. شئت .. أم أبيت .. الآن .. أم
بعد حين !.. فكم سوف أنتظر فى هذا القبر .. بدون طعام ولا ماء ؟!.. وحتى لو كان معى
.. فهل يكفى حتى تتحرر سيناء .. فأعود للحياة مرة أخرى ؟! .. وطالما أن الأمر هكذا
.. فإنه أجدر بى أن أموت وأنا رجُل .. وأظفر بالشهادة .. من أن أنتظر الموت .. وهو
عار علىّْ .. فوالدى رجُل دين وإمام مسجد .. وقد أنشأنى نشأة دينية .. تستوجب
التضحية والشهادة ) !

     
يحزم ( ياسين ) أمره .. يأخذ قراره .. يفكر من جديد : ( إن خروجى من القبر
وأسرى.. أو قتلى .. لابُد أن يكون له ثمن .. أقتصه من عمر الإسرائيليين ) !

     
يتيمم ( ياسين ) بالرمال .. يُصلى ركعتين .. يُطمئن نفسه بسكينة من عند
الله .. يتذكر فضله عليه.. فلولا وقوفه أعلى التبة فى يوم المعركة وبحوذته رشاش ( كارل
جوستاف ) ! .. بخزنة رصاص إضافية .. إلى جانب الخزنة الرئيسية .. ما كان حى الآن
.. ولابد أنه سوف ينال – ولو من واحد – من الإسرائيليين ! .. المُهم أن يصبر.. وأن
يعمل شيئاً !

      بعد
فترة .. يحس ” ياسين ” بهدوء وصمت مُريبان .. على غير العادة فى الساعات
الماضية.. يقرأ الفاتحة والشهادتين .. يدعو الله أن يسترها مع أسرته .. يبدأ فى
فتح مدخل القبر .. لا يجد صعوبة فى ذلك .. يظهر النور أمامه .. يتناهى إلى سمعه ..
أصوات لايميزها.. تزداد دقات قلبه إضطراباً .. تعلن له بأنه على بُعد خطوات من
الشهادة !

     
يخرج ( ياسين ) .. يقف على قدميه .. يمسك سلاحه بكل قوة .. يفكر : ( سلاحى
هو الأمل والعزوة والصديق .. بعدما تركتنى الدنيا .. وسأتركها أنا بعد لحظات ) !

     
يتملك ( ياسين ) الذهول .. الدهشة .. من هول ما يرىَ : ( يا إلهى .. إنهم
جنود إسرائيليون برتبة رائد يشهرون أسلحتهم تجاه عشرين .. أو خمسة وعشرين جندياً وضابطاً
مصرياًً .. وقد إنبطحوا – أرضاًً – وأيديهم على رؤوسهم .. فى وضع إستسلام ) !

      يتقدم ( ياسين ) خلف
هذا المسرح القتالى .. لا يبعد سوى خمسة أمتار عن ظهور الإسرائيليين !.. يتوقف .. يرى
– لأول مرة فى حياته – سيدة برتبة عسكرية!.. فى أقل من ثانية يحصد الإسرائيليون
حصداً بسلاحه الحبيب ! .. يتساقطون أمامه صرعى .. بأسرع مما كان يتخيل.. لا يتوقف
عن الضرب .. لكن سلاحه هو الذى يتوقف .. فقد نفدت ذخيرته .. فى ثانية .. يقوم
بتركيب الخزنة الإحتياطية .. يعيد الضرب فى جثثهم مرة أخرى ! .. رؤوس بعضهم تنفصل
عن أجسادها .. القائدة الإسرائيلية الحسناء .. لا يبق من حسنها .. أو ما يدُل
عليها .. سوى بقايا الشعر الأصفر !

      تنتاب ( ياسين ) سعادة .. لم ولن تتكرر فى
حياته ! .. يحس أنه أعاد الشرف لمصر .. وأن دماء زملائه لم تذهب هدر ! .. وأن
أسرته – الآن فقط – ستكون بخير.. وأن أبيه سوف يسعده سماع ما أبلاه .. حتى لو
أستشهد …

      يجرى الجنود المصريين الأسرى .. يتنامىً
لسمع ( ياسين ) .. صوت مُُحرك عربة نقل .. يُغادر المكان فورا ً.. يرجع – بسلاحه –
إلى قبره السابق .. حيث يجدها فرصة لتكرار فعلته !
.. وفى القبر ..! .. يقرأ أيات مُتعددة من
القرأن الكريم .
. يسمع
أصوات صراخ وأوامر بلهجة عالية.. بلدوزر يجرف التلال والأكوام والمقابر ! .. تظهر
فى مقبرته فتحة تكشفه .. يأخذ فى غلقها بكومة من رمال .. لا يفلح فى سدها.. ينظر
إليه إثنان إسرائيليان .. يقولا له :

” إطلع
يا ولد “

     
يرىً ” ياسين ” أنه من الغباء إستعمال سلاحه من جديد .. فالمكان
أصبح .. كثكنة عسكرية إسرائيلية فى مواجهته فقط .. يلهمه تفكيره .. بأن يهيل الرمال
على سلاحه .. يخفيه تماماً .. فبدونه يُمكنه إنكار إرتكابه لتلك المذبحة !

  يوجَّه له أول سؤال :

– أين سلاحك أيها الضابط ؟

– أنا بدون سلاح !

     
يصفعه الضابط الإسرائيلى :

– جيش عبد الناصر بدون سلاح ؟!

      يجيب على
غير الحقيقة :

– إننى من الضباط الإحتياط .. الذين وصلوا أمس
فقط .. وتم توزيعهم .. ولم يتم تسليحهم بعد !

     
يصفعه الضابط مرة أخرى :

– لماذا قتلت الضابطة الإسرائيلية وجنودها ؟!

   يقسم أنه لم يفعل .. فينهره الضابط :

– إذن من فعلها ؟

– أنا سمعت ضرب نار وأنا فى القبر .

– ألم تر أوصاف من قاموا بذلك ؟

– إننى لم أخرج من القبر أصلاً !

– صدقنى .. سوف نعرف !

     
يقوم الجنود الإسرائيليين بتفتيش ( ياسين ) .. يستولوا على تحقيق الشخصية
العسكرية .. يسأله العقيد الإسرائيلى :

– هل أنت
متزوج ؟

– نعم ولى ولد .. وزوجتى على وشك الوضع .

– إذن .. يكفيك هذا ويجب أن تموت .. ونعيدك إلى
قبرك !

     
يحتفظ الضابط الإسرائيلي بتحقيق الشخصية العسكرية ل ( ياسين ) .. يدون
بياناته فى مُفكرة صغيرة .. يستولى على ساعته ! .. يأمر جنوده بتوثيقه وعصب عينيه
.. يركبوه عربة ( جيب ).. تنطلق العربة فى إتجاه معسكر الأسرى الإسرائيلي .. وبعد
إنتصار مصر فى أكتوبر عام 1973 .. يعود البطل ( ياسين ) فى عمليه لتبادل الأسرى ..
وينال وسام نجمة سيناء .. تقديراً لشجاعته الفائقة …

 

إنتهت



(1) التبة : جبل صغير .. يرتفع عدة أمتار عن
الأرض .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top