من ضائع إلى مُدير بضائع
فى ندوة حاشِدة ، بإحدىَ القاعات الكُبرى
بالعاصمة ، هى الأولى من نوعها ، أُقيمت ، ليس لتكريم فتيان نابغين ، وفتيات
نابغات فقط.. بل لسماع حكايات نجاحهم المدهشة ، وهاهو أحدهم يحكى قصة نجاحه ، التى
لا تخلو من أحداث طريفة وعجيبة .
– أنا
فتى ريفى ، جئت للعاصمة بحثاً عن عمل . وهالَى ما رأيت …!
تساءلت تساؤلاً ريفياً ..! بينى وبين نفسى
:
( كيف لا توفر هذه المدينة ، الفخيمة الضخمة
، فُرص عمل ، حتى لأبنائها ) ..؟!
وكِدتُ ألومُ نفسى ، إذ جئت إلى عاَلَم مُكتظ
بالبَشر ، والمشاكل ..! عاَلَم أشبه بِمُحيطٍ شاسع ، لا ترىَ منه سِوىَ رؤوس
الحيتان ، وأسماك القِرش ، التى تختفى تحتها الأسماك الصغيرة المسكينة ..! كما ترى
أيضاً أمواجه العاتية والصاخبة .
وشعُرت وكأنى سمكة صغيرة مسكينة …! هاجَرت
من تِرعة مِتواضعة فى الريف ، إلى مُحيط المدينة الفظيع الإتساع ، لأفاجأ بهذه
الرؤوس المفترسة ..!
وفكرت فى العودة إلى الريف ، وعدم البقاء فى
هذه المدينة، دقيقة واحدة .!
لكن مُبرراً قوياً ، حملنى على البقاء .. هو
طلب تقدمتُ به للعمل فى مصنع للإلكترونيات ، قرأت إعلاناً له ، نُشر فى الصحف ،
بطلب مُهندسين شُباناً ، وانتظرتُ أن أتلقىَ رداً بقبول أو رفض ، ثم علمت أن
المصنع رفض كل الطلبات ، التى تقدمت إليه ..!
تعجبت وصِرتُ أُردد مع نفسى ، وأقول لكُل من
أقابله من معارفى :
– كيف بالله .. مصنع ،
يُعلن عن حاجته إلى مُهندسين جُدُدْ ، وعندما يتقدم المهندسون يرفضهم ؟ أليس هذا لُغزاً..؟!
وكُنت أُبرر هذا الرفض ، لأُريح نفسى من
عذاب التساؤُل، بقولى :
( رُبما هُناك مُشكلة ما عويصة ، فى هذا
المصنع ، والمسئولون عنه يبحثون عن الشخص ، الذى فى مقدوره حَلْ هذه المشكلة ، وفى
إختياراتهم للمُتقدمين للوظيفة ، فلم يعثروا على هذا الشخص .
تألمت لحالى مع الوقت ، وحال الكثيرينَ من
الشُّبان الجامعيين ، أمثالى ، ممن تخرجوا ، عندما شاهدت البعض منهُم وهو يبيع
الدبابيس ، والأمشاط ، والمناديل الورقية ، والسِّلع البسيطة ، فى الميادين
المزدحمة ، ثم وهُم يهرولون ، وسط الزحام، هرباً ، مع الباعة الآخرين حاملين
طاولاتهم على أيديهم، أو فوق رؤوسهم ، مُطارَدين كاللصوص ، هرباً من شُرطة البلدية
.
وذات يوم … وفى إحدى الحدائق العامة ، جلست
مُطرقاً، على مقعد خشبى ، مُفكِرَاً ، مهموماً ..
وإذا برجُل مجهول ، عرفت فيما بعد ، أنه قد
جعل له يوماً فى الأسبوع يقضيه تطوعاً ” دونَ مُقابل ” ، خِدمة للشباب
من أبناء وطنه ..!
لاحظنى ، وتركزت عيناه علىّْ ، واقترب منى .
ملامحه الطيبة ، جعلتنى ألتفت إليه ، وأستمع
إلى سؤاله :
– ما بِكَ يا ولدى ؟!
فقُلت :
– إنى عائد لتوى ، من
مصنع للإلكترونيات .. كُنت أسأل هُناك ، وعلِمت بأنه رفض طلبى ، مع كثيرين غيرى
!.. وتعجبت ، فلم يكُن سؤالى هُناك للمرة الأولى .
فسألنى
:
– عزيزى .. ماذا قلت
فى طلب الوظيفة ؟
أجبتُه بدهشة ، وكأنما أستنكِر سؤاله :
– قُلت مثلما قال مئات
المتقدمين مثلى ، لهذه الوظيفة ..!
– خطأ .. خطأ ..! مثل
ما قالُه المئات غيرى ..! خطأ .. خطأ..!!
سألته ، وما تزال بى دهشة :
– كيف ذلك يا عَمْ ؟
.. ما هذا الخطأ ؟
– ليس سوىَ كلام سخيف
، تقولونه ، وتسودُون به طلباتِكُم، كتلك التى كان يكتبها المتقدمون زمان ،
يتسولون بها وظيفة ، من السادة أصحاب المصانع ، والأعمال ، أى طلبات بصيغة الذُّل
..!
وأضاف :
– وحتى فى طلباتكُم
هذه الضحلة ، تناقضونَ بها أنفسكُم ، يا شبان اليوم ..! وتناقضون بها علومكم
الحديثة .. الإلكترونيات والهندسة .. عجباً ..!
ثم إستدار إلىَّ الرَّجُل ، بكُل جسمه ، لمواجهتى
وقال :
– إسمع يا بُنى ..
إليك ما يجب قوله ، فى طلبك غداً ، أو بعد غد … أكتب لهم مُجَدداً .. ما داموا هُم
فى حاجةٍ إلى كفاءة .. لا تتأخر..
أكتب لهم هكذا :
( أنا المهندس فلان … أتقدم لإنقاذ مصنعكُم
) ..!!
زادت دهشتى ، وسألته :
– وبماذا أجيبهم ، يا
عم ، عندما يسألوننى هُناك ، بسُخرية :
( كيف تنقذ مصنعنا أيُّها
الشاب ؟! )
فقال الرجُل بنفس الحماسة :
– إسمعنى يا ولدى ..
لا خير يُرجَى مع طلب ( مسكين ) .! .. أنا شاب أحمِل شهادة كذا .. وأعول أسرة ..
إلخ .. لا تكتُب طلباً كهذا أبداً .. إسمعنى !
قدِم طلباً عصرياً ، مُثيراً ، ومُحترَماً
..! طلباً يليق بشاب مُتعلم ، ذى كرامة ، بشرط أن يكون هذا الطلب ، على أساس صغير ،
ولو فى حجم رأس الدبوس .. إسمعنى !
فقلت :
– أنا لم أكتب طلبى
بهذا الأسلوب الذليل ، الذى ذكرته يا عم، ولا أظن أن غيرى كتبه .. لكن ماهو هذا
الأساس ، الذى تقصده ، والذى تريده أن يكون فى طلبى ؟
فقال الرجُل :
– إذا أردت يا بُنى
النبوغ فى عمل ، أو لكى يقبلوك ، للقيام بعملٍ ما ، كما قلت لك ، فابحث أولاً عن
شىء ، ولو صغير جداً ، بشرط أن يكون جديداً ، ومُفيداً ، فى مجال هذا العمل الذى
تريد ممارسته ، ثم قدم طلبك ..!
– ولا تنسى شيئاً ..
ولو صغيراً جداً ..! شيئاً يكون هو الأساس ، الذى يجب ذكره فى هذا الطلب .
هكذا رُحت أُرَدِّدُُ فى نفسى ، ما قاله لى
هذا الرجُل المجهول …!
وهممت للبداية .. ورُحت أبحث فى نشاط وحماسة
، وأجمع المعلومات ، كبيرها وصغيرها ، عن هذا المصنع ، الذى أردت العمل فيه مُهندساً
.. لعلِّى أعثر علىَ شىء من هذا الأساس ..!
وفى يوم .. إمتلأت فرَحاً .. إذ عثُرت على
المطلوب ! .. وأسْرَعت بتقديم طلب جديد ومُثير ! إلى نفس المصنع :
( بعد التحية .. أنا المهندس فلان .. أتقدم
لإنقاذ مصنعكم)..!
وكما توقعت .. حدَّق المدير فى وجهى .. الذى جلَس أمامى يختبرنى .. وينظُر
إلىَّ ، مُخفياً بين شفتيه ، سُخرية ، وشفقة..!
ثم ألقىَ بسؤاله التالى :
– تنقذ مصنعنا ..؟!
كيف يا عزيزى الشَّاب ؟!
وشرحت
لهُ ، بثقة العارِف ، العالِم ، المطلع
على بواطن الأمور..!
– هذه العيوب فى شرائِح ” السِّليكون
” ، مما تنتجونه فى مصنعكم ، سببها الأساسى ، قُرب المصنع من خطوط السِّكك
الحديدية ، إذ تهتز الأرض تحت الماكينات الحساسة ، كلما مَرَّ قِطار ، فيخرج مُنتجكُم
مشوهاً ، دونَ مستوى غيره ، من المصانع الأُخرى ، المنافسة لكم ..!
ولمحتُ فى عينىّ المدير علامات التحول ، وقد
كفت عن السخرية ، لتحِل محلها الملامِح الجادة الصارِمة ، المترقبة ، إذ تحولت إلى
180 درجة ..!
وأضفت أقول للمُدير :
– هذا التشوه .. يحدُّث
لمنتجكُم ، لهذا السبب الرئيسى الذى ذكرته ، برغم محاولاتكُم اليائسة ، لإصلاح هذه
العيوب، وبرغم محاولاتكُم فى البحث عن مُهندسين أكِفَاء ، والإعلان المتكرر ، عن
طلبهم فى الصحف ..!
وعادت ملامح المدير ، إلى الإستقرار ، وإلى
الإبتسام والتقدير ، وقال :
– ما
تقوله ، يا عزيزى الشاب ، جدير بالنظر ، طلبك مقبول مُؤقتاً ، مُر للقائى غداً
صباحاً .. من فضلك ..! أشكر لَك إهتمامك !
إنصرفت مُبتهِجَاً ، وأنا أُردد فى الطريق :
( إنتصرت ) !
وأضفت لنفسى :
( إنتصرت . حتى ولو لم أحظ بهذه الوظيفة ) !
كان هذا الشعور من دواعى ، إنتصار الخطة
التى كانت (… ) (اللهم إحفظَك … أيُّها الرَّجُل الكريم المجهول ) ..!
وعقد المسئولون فى المصنع إجتماعاً طارئاً ،
فى نفس اليوم ، وبعد نِقاش إستمر طول الليل ، والإستماع إلى أراء الخبراء ..
تبينوا صِحة ما قُلته ، وَعُيِّنتُ مُهندسَاً .
ما لبثت أن رقيت مُديراً لقسم تصدير البضائع
، وتم نقل المصنع ، بعيداً عن خطوط السكك الحديدية ، وصار ناجحاً ، وقادراً على مُنافسة
المصانع الأُخرى ، المنتجة لشرائح السِّليكون .. فى كُل أنحاء العالم …!
وفى كُل يوم …
أثناء
الذهاب والعودة ، من وإلى المصنع ، أتعمد الوقوف ، أمام الحديقة العامة ، وفى
الأماكن العامة أيضاً ، وأُطيل النظر ، يميناً وشمالاً .. بحثاً عن شخص ما ..
أظنكم تعرفونه مثلى ..!
كُنت أود من كل قلبى ، أن أسدى شُكراٍ ،
لهذا الشخص الكريم المجهول !
ولما لم أنجح فى العثور عليه ، قررت أن أُترجم
مشاعر إمتنانى هذه إلى فِعل ، أو نصيحة مُخلصة ، كنصائح هذا الرجُل الطيب والكريم
.. نصيحة أسديها إلى أى شاب ، يحتاج إليها .. ! شاب ضائع سابقاً ، مثلى ..!
هذه هى حكايتى ..!
ودوت القاعة الكُبرىَ بالتصفيق طويلاً ،
تحية لهذا الفتى ، لمثابرته ووفائه !!
إرسال التعليق