عراف الخيمة





أصل
وكبير المراقبين إلى بداية العالم، نعبُر الصراط، نجتاز الخطر، ندخل خيمة كبيرة في
طرف الوادي السحيق!.

يستقبلنا شيخ بدوي بتهليل وترحيب، يرتدي ثوباً أبيض مُذهباً، ضاوياً
ومتألقاً، يشير لنا بالجلوس!.

 نرمي لهاثنا فوق وسادة من قطيفة
متعددة الرسوم، وبألوان تزهل الأبصار!.

يضع كُلاً منا بندقيته وقناعه وزمزميته بجانبه!.

لم أتخيل قط أن توجد خيمة مثل خيمة مضيفنا في قلب الصحراء، الأرض مُغطاة
بأجمل سجاجيد وتتدلى من أعلى ثرية مُذهبة ومرصعة تحمل شموعاً غير موقدة، وفي الركن
صندوق خشبي مستطيل عليه رسوم عصافير وزهور وغصون تميل، منقوشة بالبرتقالي
والليموني والفستقي والأخضر، وحدة منمنمة من نقش عصفورين متشابهين متقابلين بينهما
وردة، تحيط بها وبهما الغصون، وحيث ينتهي قوس الجناح المضموم وطرف الذيل، تبدأ
وحدة منمنمة جديدة، ذيل عصفورها يكاد يلامس ذيل عصفور الوحدة الأولى، ثم يصعد
مبتعداً مع قوس الظهر، وينتهي برأسه المتطلعة إلى الناحية الأُخرى، حيث وردته
وإلفه، وفي المثلث مقلوب الرأس الفاصل بين الوحدتين تكثر الفروع والأوراق ومنمنمات
الزهور، تتكرر الوحدة كأنها نسج من الألوان المبسوطة على خلفية زيتونية زادها
القدم دكنة وعُمقاً، كما تتداخل في خشب الصندوق البني مربعات ومثلثات دقيقة من
الصدف اللامع!.

، الصندوق كبير، يمكن لأخي الصغير أن يجلس متربعاً فيه، يشاركه قارورة
لازوردية مملوءة بماء زمزم، حملها جدي لأبي إلى جدتي من الح، ومنديل مطرز، وجلالة
من المخمل الكحلي المقصب، ومكحلتان إحداهما صغيرة من الذهب الخالص على شكل طاووس
دقيق والثانية من الفضة لها مرود مستدير من غصون متفرعة، وحُق من العاج وحجر غريب
وردي اللون مائل إلى دكنة!.

يتمدد الشيخ على حشايا من حرير مطرز تطريزاً بديعاً!.

يهل صبي يافع بين يديه صينية محملة بأكواب لامعة، وكُل ما يلزم لصنع
الشاي!.

ينهمك الصبي في صنع الشاي والمحافظة على إشتعال جمر منقد فخاري ورص حجر
نرجيلة، مزركشة بخيوط ملونة!.   

يعبق الجو عطر تبغ عذب، ينظُُر الشيخ إلى كبير المراقبين: وينك يا فتى، لك
مُده ما رأيناك؟!.

بود: تحت النظر يا شيخ العرب، كيف حالك إنت وحال الإخوة؟!.

 بخير والله يا ولدي، كيفك إنت وكيف
عُمار النقطه؟!.

يربت على كتفي: بخير، والأخ واحد منهم!.

بابتسامة تكشف عن أسنان مُصفرة، مشرشرة: أهلين وسهلين، كيف حالك يا ولد؟!
على -الله زين؟!.

-زين
يا شيخ العرب،زين!.

ثم أستطرد: سؤال يا شيخ!.

-إتفضل يا ولدي.

 -ممكن أعرف، كيف يأت نومكم وسط
العقارب والحيات بدون ضرر؟!.

بابتسامة نحيلة، خجلة، وبلمعة من عينيه: لا شيء يا ولدي، كل ما هنالك أننا
تعودنا أباً عن جد أن نطَعِم أولادنا بعد الولاده بشهور جرعات صغيرة من سِم الحيه
والعقرب، بعدها يسخن الطفل قليلاً، وفي كل مرة، يزداد جسده مناعة!.   

 -والطريشة*[1]؟!.

بإشارة من ذراعه، وومضة أخرى من عينيه، وفي انفعال: لا يا ولدي الطريشة
ملعونة، ولابُد بعد عضتها من البتر الفوري، أو الكي إن إتسع الوقت!.

كبير المراقبين: ربنا يحفظنا منها يا شيخ العرب!.

ثم يستطرد: قاصدينك في خدمه والله!.

بحماس: خير يا ولدي!.

يتململ قليلا، ثم: بودنا قراءة الطالع!.

 -خير إن شاء الله!.

وهو يشير تجاهىَ: زميلي رأى رؤيا مُفزعة، ويُريد الإطلاع على المخبوء!.

بإيماءة من رأسه ودفعات من دخان النرجيلة الفخفخيني:

بسيطة!.

ثم: إيش الرؤيه؟!.

أرد باقتضاب: رأيت وكأني وزملائي جثث هامدة على التبة!.

يضحك الشيخ: أضغاث أحلام يا ولدي، وعلى أي حال،!.

ثم يلتفت، وهو يلكز كتف الصبي: العراف يا ولّد!.

تهب برودة خفيفة، وقبالة مدخل الخيمة، أرى بوضوح أثار أقدامنا على الرمال،
فجأة شخص أخر قوي يتمطى داخلي، يدفع ضلوعي، يُشعرني وكأني لم أسافر مئات الكيلو
مترات، وكأني لم أترُك ورائي صورة أبي بإطارها المُذهب، ومرآته اللامعة حتى الصفل،
وأمي، وأختي، وأخي الأكبر، والأصغر، ومنحنى الحارة، والمدينة!.

أجول بعيني من شق طولي نحيل بجدار الخيمة، أبصر عدة أعشاش للدجاج، وبداخلها
بيض متناثر، وخلف العشش مرتفع صغير من الرمل، يفصل عن باقي الخيام!.

أدير بصري إلى مخرج الخيمة، خلاء أبدي قاهر، فسيحاً، جموحاً كساحة سباق، لا
تحتاج سوى التسوية وإخلائها من كثبان الرمال والصخور وشجيرات عاقول وقيصوم ونباتات
أخرى، لم أتبين كنهها أبداً!.

يصطدم الخلاء بسلسلة جبال نائية، تنتهي السماء هناك، لونها غريب، كأن فرشاة
ألوان مائية رقيقة، خطت تلك الخطوط الدقيقة التي تحدد قمم الجبال والتلول
والتبات!.

الطريق من الكتيبة وحتى النقطة لم أرى فيه جبال، بمثل هدا الجمال والسحر،
تلك التكوينات الغامضة!.

كبير المراقبين عينه معلقة على البدوي مرة الذي لا يكف عن الترحيب بنا من
حين لحين ومرات على ثرية سقف الخيمة، ومدخلها المُتسع، الأسطوري!.

برودة الجو لا أحسها!.

أسمع وقع أقدام جانبية، غامضة!.

بالقُرب من الشق الطولي الممتد عن يسار البدوي يدخُل من فتحة الخيمة شخص
ملثم، طويل القامة، نحيف، بوجه بشوش، على ساعده الأيسر القوي صقر بلون أبيض شاهي!.

ننهض للعراف، يصافحنا، يجلس قبالتنا، يدس الصبي بين جمر المنقد براد شاي
معدني لامع!.

يتواصل ترحيب الشيخ، ينظر باتجاه العراف الذي يقطع عليه: أعلم ما تود قوله،
بدهُما كشف الطالع، زين؟!.

يبتسم الشيخ: زين والله زين؟!. 

ينظر العراف لكلينا، ثم: لماذا تبغيان كشف الطالع؟!.

يُبادر كبير المراقبين: لكي نتمكن من فعل أشياء مُفيدة، ونتجنب أشياء
ضارة!.

 -في هذه الحالة، لن يكون هذا هو
مستقبلكُما!.

-ولكن، ربما كُنا نود أن نعرف المستقبل، لكي نتأهب لما هو مُقدر أن يحدث!.

 -إن كانت أشياء حسنة، فستجئ
كمفاجأة طيبة، وإن تكُن أشياء سيئة، فستقاسيان كثيراً من قبل أن تقع!.

 -نحن نريد أن نعرف المستقبل لأننا
بشر، ولأن البشر يعيشون رهناً بمستقبلهم!.

يظل العراف صامتاً للحظة، ثم: أنا أكسب عيشي أحياناً من قراءة مستقبل الناس،
فأنا أعرف فرش المنديل، وخط الرمل، وقراءة الكف والفنجان، وكيف أستخدمهم للنفاذ
إلى هذه الحُجب، المدون فيها كُل شئ، وأستطيع أن أقرأ فيها الماضي، وأن أكتشف
الأمور المنسية، وأن أفهم شواهد الحاضر، وعندما يستشيرني الناس، فإني لا أقرأ
المستقبل، بل أتكهن به، لأن المستقبل بيد الله، ولا يكشف سره إلا هو، وعن نفسي، لا
أتكهن بالمستقبل، إلا بفضل شواهد الحاضر، ففي الحاضر يكمن السر، وإذا إنتبهتما إلى
الحاضر، فيمكنكُما أن تجعلاه أفضل، وإذا أحسنتُما الحاضر، فسيكون ما يتلوه أفضل
بالمثل، إنسا المستقبل وعيشا كل يوم من خدمتكما بجيش المحروسة، حسب ما يمليه
ضميركما وحبكما لها، يقظان، واثقان إن تحققت النبؤة الضارة من رحمة الله، ثم أننا
جميعاً سائرون إلى الموت، فالنهاية واحدة، من التراب وإلى التراب!.

وجعل يقول: وإليكُم الدليل، حيث في الليلة الخامسة عشر من الف ليلة وليلة،
نجد العفريت وقد إتخذ شكل الأسد، يحاول أن يلتهم بنت الملك، ولكن هذه الأميرة التي
لها قدرات العفريت وأكثر تنزع شعرة من رأسها، فتكون الشعرة سيفاً، تضرب به الأسد
فينشطر نصفين، فينقلب أحد النصفين عقرباً، فتتحول الأميرة إلى أفعى تطارد العقرب،
فينقلب العقرب صقراً، فتنقلب الأميرة نسراً، ثم يصير الصقر قطاً أسود، فينقلب
النسر ذئباً، وينقلب القط الأسود إلى رُمانة حمراء في بُحيرة ماء، فيقترب منها
الذئب، فتطير في الهواء وتقع على الأرض، فتنفرط، فينقلب الذئب ديكاً، يلتقط حب
الرمان، ويروح الديك يصرخ، ويقفز في كُل مكان، حتى يجد أخر حبة فينقض عليها،
فتسقُط الحبَّة في الماء . فيتحول الديك حوتاً، وينقض عليها، ويغيبا تحت الماء، ثم
تتحول الحبَّة عفريتاً، كما كان، ثم شعلة من النار التي تخرج من حنكه، ومن عينيه،
ومن أنفه، وتتحول الأميرة –هى الأخرى– إلى نار، ثم يصير العفريت كومة تراب، وتتحول
الفتاة –هى الأخرى– إلى كومة تراب!.

يتنهد، ثم: أرأيتُم، من التراب وإلى التراب نؤوب، فلا تشغلا نفسيكُما بما
في الغيب، وما هو مقدر لكُما!.

ينتهي العراف، وينصرف عنا بوجه متجهم، وبعد قليل، نشكُر شيخ الخيمة ونمضي
عائدين إلى نقطتنا، وفي الطريق: هل اقتنعت بالعراف؟!.

يلتفت نحوي كبير المراقبين، وهو يقول: نعم، فعلى ما يبدو، هو رجُل حكيم،
عالم، مثقف، مبروك، وبه شئ لله!.

-ولكن، كذب المنجمون، ولو صدقوا!.

بتردُد: بالطبع، ولكن، لا أظن أنه (وعلى ما يبدو) مجرد مُنَجِم!.

-ولهذا إقتنعت به؟!.

-نعم!.

-ولماذا هو غير مُنَجِم؟!.

-لآن كلامه حكَم، وعن علم وثقافة!.

-وهذا هو ما يقلقني يا أخي، فلأنه صاحب حكمَة وعلم وثقافة، فقد عَلِم
مكروها سيحدُث لنا، ولم يشأ بحكمته وعلمه وثقافته أن يخبرنا به؟!. 

-وما دليلك؟!.

-إنصرافه يا أخي بوجه متجهم، غير الوجه الذي إستقبلنا به!.

-ربما، ولكن، لا تأخذ في بالك، ودعنا الآن ننتبه إلى الوادي، حتى لا يصيبنا
مكروه بحق وحقيقي!.

 من مجموعتي القصصية تحت الطبع “عريت جولدا”.

 

 

 



*
الطريشة:
حيَّة
مُقرنة؛ طائرة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top