ودب الخلاف بين الفريقين

ودب الخلاف بين الفريقين

 وهكذا دب الخلاف بين أفراد العصابة المسلحة حول طريقة قتل تميم، وهل هى طريقة فورية، أم طريقة مؤجلة. وفجأة. وجه أفراد العصابة المسلحة أسلحتهم، كل منهم نحو الأخر… فانتهز تميم الفرصة، وبدأ بالركض في الزواريب الجانبية، بعدما تبين له، أن الجري هو الوسيلة الوحيدة التي يعرفها للدفاع عن نفسه، والنجاة بحياته. فراح يركض ركض الفهد، تاركاً خلفه كيس المناقيش، حتى اختفى  في قعر بيتهم، ينتفض من الخوف والذعر، غير مصدق أنه فر بحياته. وبعد ذلك الحادث، نجح عمي زاهر وأسرته في الهروب من جحيم الحرب في مدينة بيروت، وسط ظلام الليل، مخترقين مدقات الجبل بعربتهم الصغيرة، يتحاشون حواجز الجماعات المسلحة على الطرقات، والقائمين بالقتل على الهوية، وحيث الجنون استبد بالجميع. وعلى ذكر الحرب الأهلية، فقد بدأت كما ذكر لي أبي بحادث واحد، بعد محاولة اغتيال زعيم حزب الكتائب بيير الجميل على يد مسلحين مجهولين، والتي رد عليها الحزب بإطلاق النار على حافلة كانت تقل عدداً من الفلسطينيين في منطقة عين الرمانة في مدينة بيروت، فكانت الشرارة التي أشعلت نيران الحرب. وكانت حادثة حافلة عين الرمانة هى التي أشعلت المخيمات الفلسطينية، فنظمت مظاهرات احتجاجية في كل المخيمات، والتي كانت من بينها مظاهرة مخيم عين الحلوة، وهو المخيم الأكبر حجماً، والذي لا يزال يقع في مدينتي صيدا القديمة.

كانت جارتنا أم فوزي فلسطينية الأصل مثل زوجها، ولكنها أردنية الجنسية، وفي تلك الفترة، كانت لا تزال تعيش مع زوجها وأولادها منه في مخيم عين الحلوة، ولما وصلهم خبر مذبحة الحافلة، طلع كل أهالي المخيم من بيوتهم غاضبين.. كما حكت لنا أم فوزي. وأكملت بأنها طلعت معهم، وهم متجهون مباشرة للسراي الحكومي في صيدا القديمة. ما بقى أحداً بالبيوت، فالكل طلع يريد الإحتجاج، ولم يكن ذلك اليوم عادياً لأم فوزي وأسرتها، ففيه قُتل ولدها الكبير فوزي، وقد أخبرتنا بأن الكل كان يحبه قبل موته، وقبل مظاهرة صيدا القديمة، أحضر علم فلسطين ببهو الدار، ولف حاله فيه، وحكى لها “بكره راح يلفوني بالعلم، ويلفوا بيا بالمخيم”.

كان فوزي بسن ستة عشر عاماً، وكان عضواً بفصيلة فلسطينية. وبعد مقتله، أخبرتنا أمه بأنه كان يلم كل أولاد الحارة، ويعطي لهم ملصقات، وأنها ما كانت تعرف عن محتواها، كما ظل يعطي للأولاد نشاء من أجل لصقها، ويقوم حزب الكتائب بتخريبها. وفي يوم مظاهرة عين الرمانة، حاولت أم فوزي بأي وسيلة، منع فوزي من الخروج للتظاهر، إلا أنها لم تستطع، وعندما كانت التظاهرة تقترب من السراي الحكومي في صيدا القديمة، الذي يبعد خمسة كيلو مترات من المخيم، نجح فوزي في الإفلات من يد أمه، واللحاق بالتظاهرة، وقد أخبرتنا أم فوزي والدموع تملأ عينيها، بأن فوزي في ذلك اليوم طار، لم يكن يركض، بل يطير بجناحين، وفور التحاقه برفاقه، فتح الجيش اللبناني النار، ووقتها قتل أربع فلسطينيين، من بينهم فوزي. وواصلت أم فوزي إخبارنا بآسى، بأن فوزي حين مات، لفوه بالعلم الفلسطيني كما طلب وتمنى، وبعدئذ داروا به في المخيم.

      -صباح الخير يا عمو سعد.

      -صباح النور يا حنان يا حلوه. رايحه على وين؟. المدرسه؟. ما تنسي تسلمي على معلماتك. وهكذا كل يوم. كنت أصبح، ويصبحني عمو سعد، صاحب فرن معنيه في زروب معنيه.. ونكمل طريقنا أنا ورفيقتي هناء. نمشي بالزواريب المغطاة بالسقوف الحجرية البيضاء، المقوسة لأعلى، والتي لا ترى الشمس، إلا من فتحات عرضية عديدة في الأسقف للتهوية، وعلى مسافات قريبة، أو متباعدة. وقد بدا الكل.. إما ذاهب لعمله، أو لتوصيل أولاده إلى المدرسةوكان يلفت نظري في كل مرة أمر فيها من أخر زروب، ذلك المقهى الشعبي الفسيح، الذي كان يجلس فيه الرجال الشيب والشباب، وأغلبهم صيادوا أسماك، يصطادونها من بحر العيد، وقد بدوا لناظريا، كما لو كانوا كائنات خرافية، خرجت لتوها من حدوتة تحكيها امي، أو عمتي فريال، بمرآهم العجيب الساحر، وهم يشربون الأراكيل، التي تشبه أركيلة بيتنا، وينفثون من أنوفهم دخانها. تلك الأراكيل ذوات الأشكال العجيبة، التي كانت تبهرني بألوان مباسمها البيضاء، وياياتها الطويلة الزرقاء والحمراء والصفراء، وكذلك الطرابيش الفضية المنكسة على أوعية المعسل الفخار.

      –أنا حاضره، إنتظروني.

تهتف رفيقتي الأخرى حسناء من داخل الدار، وتركض مسرعة من تحت سباط الممر الضيق، ثم تهتف من جديد: صباحو.

كنت أحب مشهد سباط الممر الضيق في بيت حسناء، فهو من الخوص الممتد بين جداري الممر، لحماية المار من أشعة الشمس اللاهبة في الصيف، ومن زخات المطر الباردة بالشتاء، وكم كان يبدو جميلاً ذلك السباط ذي الظلال المتماوجة على أرضية الممر، ووجه المار من تحته، فينشر جواَ أسطورياً، يشبه جو الممر المؤدي لبستان بيت أبي العتيق، يعلوه شقتنا الرائعة ذات الفسحة الكبيرة المسقوفة بالزنكو المضلع، على أرضية بيضاء مرصوصة بالزراريع الفخارية المملؤة بالزهور والورود، المؤدية إلى المنزول، أو ما يطلق عليه حالياً الصالون، ومن المنزول.. نتجه إلى فسحة أخرى كبيرة، مسقوفة بالزنكو على أرضية حمراء، خالية هذه المرة من  الزراريع، ومن تلك الفسحة، نتجه مباشرة إلى مربع مسقوف بالحجارة، له أربعة غرف على الجانبين الأيسر والأيمن، وفي الضلع المواجه المطبخ، وبجواره الحمام. والجميع مسقوف بالحجارة البيضاء. وكانت غرفة عمتي فريال بسقف ديكور إضافي من الخشب الزان المضلع الممتد. وكانت تجاور غرفة أمي شمس وأبي رحيم، وفي الجانب المواجه لهما، غرفتي أنا وإخوتي البنات، أما أخي ماجد، فكان له غرفة خاصة به.

كان المربع فسيحاً جداً من بهو مبلط بالرخام، وعلى إحدى حوائطه مرآة كبيرة ببرواز خشبي مذهب.. طبعا كنت أقف بالمقابل منها عدة مرات باليوم الواحد، لأسرح شعري، واتفرج على حالي. وكان يوجد أيضا البوفيه.. تفتحها أمي، لترفع بعض الفناجين الزجاجية، المكسورة بفعل عفرتتي، أنا وأخيوأيضا الأسمندرا.. وهى خزانة بالحائط، تضع عمتي فريال المؤنة بداخلها، وتقفلها بباب خشبي صغير ذو قفل نحاسي، ومن فوقها تضع أمي الشراشف واللحف والمخدات والمساند.. وغيرها.



 من أجواء روايتي القادمة “بحر العيد” وتدور أحداثها بلبنان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top