كانت القذائف
الصاروخية تنهال أحياناً على الأطراف الشمالية لمدينتي صيدا القديمة، وبالرغم من
ذلك كنت أضج بالحياة بين زواربها الضيقة، وكانت بنت الجيران هناء تناديني في
الصباح الباكر جداً من تحت شرفة بيتنا بصوتها البيانو: حنان .
حنان. فأرد عليها بصوتي
الكمنجه: نازله. نازله.
كنت دائماً استيقظ مع صياح الديك كعادتي كل يوم، وأنهض
عن تختي الوثير بهدوء ناسك، ثم أغتسل عند الحوض المعدني وأمشط شعري الأسود الناعم
المسترسل على ظهري، صانعة غرة على جبيني، وارتدي التنورة القصيرة الزرقاء،
والبلوزة الضيقة البيضاء، والحذاء الجلدي اللامع الأسود في أبيض، طابعة بحذر قبلة
على خد عمتي فريال النائمة كالملاك في فرشتها الوثيرة ومهرولة إلى المطبخ لأجد أمي
كدأبها كل صباح، تقوم بتحضير أرغفة الجبن والمربى والبيض المسلوق لي ولإخوتي
البنات وأخي الأصغر، فألتقط منابي في حقيبتي المدرسية الخضراء، وفي الخارج رحت
أعتذر لرفيقتي هناء: آسفه اتأخرت كعادتي كل يوم. فتضحك مني
وتقول: ههههههه. سماح ككل مره، لكن تعبتيني معك يا بنت. فأشارك رفيقتي الضحك ونحن
نمشي سويَّا إلى مدرستنا الإبتدائية في الحي الأمريكاني، قاطعين الزروب ذي السقف
المقوس لأعلى من الحجارة البيضاء والمرصوص على الجانبين بواجهات البيوت والبواكي
والمقاهي والمحلات مغلقة الأبواب في معظمها والتي لم يصحو أصحابها مع صياح الديك
مثلنا.
كنت أنا
البنت الصيداوية الحلوة الشقية شتلة الورد وأصغر إخوتي البنات وأخر العنقود سكر
معقود، كما تنعتني أمي وعمتي فريال، يشاركني في تلك المكانة الأسرية أخي ماجد
أصغرنا جميعاً. أما عن أسعد اللحظات التي
كنت أشعر فيها بجمال طفولتي هى عندما كنت أذهب إلى مدينة بيروت برفقة أبي وأمي وأخواتي داليا وريم
وجلنار وشهد ورودينا، إضافة إلى أخي ماجد، قاصدين زيارة عمي زاهر أخو أبي في بيته
الكائن في قلب مدينة بيروت، ذلك البيت الفسيح المكون من دور واحد. وكان أشد ما
يبهرني في هذا البيت هو لون بلاط بهو الشقة المتموج بالدوائر والخطوط والمثلثات
الزرقاء. من يراه يظن بأن البهو مسبح. وكنت أعشق الأكل من حلويات عمي الشرقية التي
كان يقوم بصنعها بإتقان خبير، وبيعها لأهل بيروت في محله الشهير بوسط المدينة،
خاصة كعكة الكنافة المحشوة بالجبن التي كنا نتناولها في الفطور وأستلذ بأكلها
استلذاذي بأكل الفاكهة، ولا أريد أن تنفذ من الصحن الفخار وأنا ألعق ما علق
بأصابعي من بقاياها. كما أعجبني كذلك في بيت عمي بستان كبير ملئ بأشجار الحامض
والفاكهة وشتلات الزهور والورود. تماماً مثل بستان بيت أبي. وكنت وأخواتي وأخي
نلهو ونلعب مع أولاد عمي أنس وتميم وجميل، وأختهم الوحيدة سهام.
***
كنت وأنا
في الطريق إلى مدينة بيروت أحب الجلوس بجوار نافذة الحافلة وأنا أتطلع من نافذتها
نحو بحر العيد والنسمات تحرك خصلات شعري والغرة المتدلية بكسل على جبيني، فأزيح
الجميع وراء أذناي، فيعاودن، فأزيحهم وأنا في قمة السعادة ويد أبي رحيم الحانية
على كتفي تحميني من اهتزازات الحافلة وميلها عند المنعطفات القاسية.
لم تكن
زيارتنا لمدينة بيروت تمتد إلا ليوم واحد أو يومين على الأكثر برغم كرم عمي زاهر
واحتفائه بنا هو وزوجته وأولادهما. أما فيما بعد فلم نعد نستمتع بتلك
الزيارات لآن عمي زاهر وأسرته بدلاً من الذهاب إليهم أتوا هم إلينا ليمكثوا معنا
بلا عودة أو لأجل غير مسمى، وكان ذلك هروباً من جحيم الحرب الأهلية، والتي أحالت
مدينة بيروت إلى مدينة أشباح ببيوت ومعالم مُهدمة وشوارع وزواريب تنعق فيها
الغربان ونعيب للبوم في كل مكان. كان بيتنا في مدينة صيدا القديمة فسيحاً، إتسع
لنا ولعمي زاهر وأسرته، فقد كان من شقة بالدور الثاني، لها أربعة غرف، على كل جانب
غرفتين بينهما مربع واسع. وكانت الشقة مسقوفة بالخشب الزان المضلع الطويل. أما عن
الدور الأول، فقد شغل طابقه جارتنا أم فوزي مع أولادها وزوجها الفلسطيني الأصل.
كان مما
آلمني، أن عمي زاهر وأسرته، لا يتناولون اللحوم عندنا، وكان ذلك محل استغرابي
الشديد، حتى وقفت على السبب، حين فتحت زوجة عمي ذات صباح ثلاجتنا، لتتناول الماء
المثلج، وبدأت تصرخ، وعبثاً حاولت أمي إقناعها، بأن ما تراه هو رأس خروف مقطوع، لا
رأساً بشرياً، وبعد أن هدأت زوجة عمي، حملت أمي رأس الخروف إلى جارتنا أم فوزي
تطبخه عندها، داعية إياي للحاق بها. ومن بعد تلك الحادثة، ظلت أسرة عمي زاهر تظن،
أو تتخيل، أن ثلاجتنا مملؤة بعشرات الرؤوس البشرية، التي مات أصحابهاعلى أرصفة
مدينة بيروت، والتي كاد أن يلحق بإحداها تميم إبن عمي زاهر، وذلك بعد عدة أيام من
انفجار العنف. وقتها. كان ذاهباً لشراء أرغفة المناقيش1، وعند عودته استوقفته عربة
تقل بعض المسلحين المسيحيين.. أبو أحدهم قُتل على يد جماعة مسلحة مسلمة، ففتش إبن
القتيل عن أول كبش فداء مسلم يصادفه في الطريق، فكان تميم وحظه العائر الذي أوقعه
بالصدفة في الفخ.² حينها. أمسك إبن
القتيل بتميم، وبعد الإطلاع على ذراعيه الخاليتين من الصليب، بدأ يشتم في تميم
الذي دُهش، لآنه كان يجد الأديان كلها وسيلة لتقرب الإنسان من الله، ولم يكن بوسعه
تصديق، أن الأديان وجدت لتدمير الحب بين بني الإنسان على يد الإنسان، بدلاً من
إشعال ناره المتأججة في القلوب، وإلا فما معنى حبه لـكيلارا المسيحية التي كانت
تجاور مسكنه. قال لها فيما بعد، بأنه سيتزوج منها على أية حال، مرة في الصحراء
أمام النجوم والقمر والأفلاك، والله الحاضر في داخلهما، وفي كل مكان. ومرة في
كنيسة.. وأخرى في مسجد.. وثالثة في معبد. ليرضي عنهما الجميع. فقالت له كيلارا بأن إرضاء
الكل مستحيلاً، وعمل غير شريف، فمن واجبها وتميم أن يوقفا التقسيم داخل عقول
الناس، بدلاً من مسايرتهم. وحين جرت العصابة المسلحة تميم إلى الرصيف، ظل يقول لهم
في ذعر: شو ذنبي؟. ولكن إبن القتيل كان غاضباً، فكال له الشتم، بيد أن المسلحون
ظلوا يتجادلون في مسألة قتله، وصار أحدهم يتحدث عن أنه مجرد طفل كبير، فرد أخر:
لا، ما هو بطفل، نبت له شارب، والا انتم عميان؟. فقال ثالث: طيب. نقتله هنا، والا
ننقله معنا؟. قال رابع: لا، نقتله هنا. هتف خامس: طيب. مين بيقتله؟. وعندئذ أجاب
سادس: شو تفصد بمين يقتله؟. أكيد طبعاً مينا. “وأشار إلى إبن القتيل.”.
ولكنه واصل: ولكن. كيف نقتله؟. بالسكين، والا بالبندقيه؟. وأمام حيرتهم، سأل أحدهم
تميم: إختار موتك. فقال تميم، والدموع تنهمر من عينيه: ما حابب اموت. فاقترح أخر
إطلاق رصاصة سريعة على رأس تميم، والتحرك بسرعة قبل حضور جماعة مسلمة. فقال تميم
مرة أخرى متوسلاً، ولا زالت دموعه تنهمر: ما حابب اموت. وفجأة. أعلنها ابن القتيل
جلية: أوكيه، أنا يلي
حختار موتك. وفي تلك اللحظة. سأل أحدهم تميم: من أي حزب انت؟. فأجابه تميم وسط
نحيبه: ما عندي حزب، أنا صغير.
-وابوك؟.°
-ولا ابويا، ولا حدن من أهلي. فقال أخر:
أفضل نخطفه، ونحقق معاه، وبعدها نسوحُه1.
من أجواء روايتي القادمة “بحر العيد” وتدور أحداثها بلبنان.