حمار حاييم

 


الساعة تقترب من السابعة والربع، تتقدم العربة إلى أنبوب النفق،
نترجل، يدور كلب الحراسة “الردبون” حول العربة دورة واحدة، نصعد من جديد،
تدلف العربة في النفق، لا عربات مقابلة، أو خلفية. يبدو أن المرور بالتتابع.

تلفظُ العربة مؤخرة النفق، تنحرف يساراً، أحلق بعيناي، قروش ضوء راقصة
على مياه القناة، تقيم حفل راقص من باليه بحيرة البجع، تتقدم أمواج، تتراجع أخرى،
كتنفس بطئ غامض للكون، يخفق قلبي لمرآى المجرى الساحر، الغامض، لعبق معاركه
القريبة والبعيدة، لتضحيات رجاله، ليوم عبوره، يوم البعث، يوم الثأر، يوم الهجوم
الصاعق لقوات المحروسة على قوات آل صهيون القوات المتحصنة بخط “بارليف”،
يوم أبي وجنوده، يوم جندي الإستطلاع “حاييم”، السائر بتثاقل، وهو يشعر
بالخمول من مهمة مراقبته الحمقاء، وهو يصعد إلى بُرج المراقبة، ناظراً في المنظار
بملل، روحه خامدة، يتساءل (ماذا يفعل في هذا المكان البليد؟. والجنود المصريون
يلعبون الكرة، وبعضهم يسبح في القناة، وآخرون يمصون القصب، ويلعبون “سلطح”،
فلماذا جاء التحذير بأن الموقف ج ؟. إنهم كسالى، لا أدري كيف كانوا أصحاب حضارة؟).
وفجأة: -كيف الحال عندك يا “حاييم”؟. 

-لا جديد يا سيدي.

 – أسال عن المصريين يا “حاييم”.

 -يلعبون الكرة، ويمصون القصب،
ويسبحون في الماء.

 -ماذا؟.

-ويلعبون تلك اللعبة السمجة “سلطَح”.

بعصبية: -أسال عن شئ غير عادي يا حمار.

-لا أرى شيئاً غير عادي يا سيدي.

-إفهمني يا بجم. هل هناك أي مظاهر تدعو للقلق؟.

-مثل ماذا يا سيدي؟.

-التحركات على الجبهة يا غبي.

-نعم. نعم. لحظة. أرى عربات، وجنوداً، وضباطاً، لكن هذه التحركات، رأيت
مثلها في الأيام الماضية.

-طيب. هل ترى كباري؟.

-كباري؟.

-نعم يا ثور.

-أنا أري عربات نقل كبيرة تحمل أشياء في صناديق.

-هل هى كباري؟.

-لا أدري.

بغيظ: -هل هناك أشياء أُخرى يا حمار؟.

-نعم يا سيدي.

-ماذا؟. قُل بسرعة.

بذعر: – إنها طائرات يا سيدي، طائرات.

بلوثة: -إذن، هى الحرب، هى الحرب يا “حاييم”.

وقبل أن ينطق “حاييم”، يُصاب بُرج مراقبته بدانة مباشرة،
تهدمه، وتُوقع “حاييم” قتيلاً، بعدما انطلقت مائتا طائرة على ارتفاعات
منخفضة، تدك مطارات العدو في عمق “سيناء”، وتجمعات قياداته، فلول
دباباته، محطات راداره، مخازن أسلحته، ذخيرته، وبعدها بثلثي الساعة، يمتلئ الأفق
بالنيران، آلفا مدفع تصُب حممها على خط “بارليف”، تدُك حصونه، ألغامه،
دباباته، مساطبه، عرباته، خط المياه الرفيع الموصل بين البحرين الأبيض والأحمر،
يشتعل بألاف الصواريخ العابرة والقنابل دون انقطاع، إنه حقاً يوم البعث، يوم الخلق
من جديد للمحروسة، يوم الخروج من تابوت الصبر والإنتظار، يوم طيور “الرخ”،
وقد اكتمل نموها، وراحت ترفرف بأجنحتها وذيولها النارية نحو الشرق صارخةً، صرختها
لها دوي ألفي مدفع، ومائتي طائرة، تزغرد لجموع الجنود المحارسة العابرون للقناة في
خطوط منتظمة، وهُم يعدون في خطوط مرورية مرسومة بدقة، وبيدهم أعلام المحروسة،
وفوقهم عشرات من طائرات الهليكوبتر تطير برجال الصاعقة إلى عُمق أرض التين
والزيتون، وأمامهم مهندسون في موجة أولى، معهُم نوع قوي من مدافع المياه يقوضون
بها الساتر الرملي. الصورة منضبطة ودقيقة، والسيناريو منطقي وحركي، يسيطر عليه عقل
ذكي، لامع، خلاق، لا يتدخل فيه المونتاج لقطع لقطات، أو لضبط إيقاع، فالإيقاع سريع.
أسرع من أخذ النفَس.

من روايتي القادمة “ذئاب الليل”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top