كان
صوت وقامة الجندي يحويان صلابة جذو
ع النخيل، والوجه مكور، ذي سمرة فاتحة، وشفتين مكتنزتين،
وعينين واسعتين، لهما بريق لا يمت إلى هذا الزمان بصلة، وشارب أسود رفيع مقوس
لأسفل، يلتحم مع ذقن خفيفة بلون الشارب، وعلى رأسه الضخم شعر أسود أجعد قصير. أما
روحه، فراحت تمرح في كون آخر، لم أسبر غوره بعد.
حمل
الجندي الضخم مخلتي بإصرار عجيب إندهشت له. وبعدها، صنع بنا طابوراً قصيراً، صار
هو في مقدمته. أما أنا، ففضلت الإلتزام بذيل الطابور، وأثناء صعودنا المدق الصخري،
تمنيت الزحف عليه مخافة التدحرج للخلف، ولكني اكتفيت بمد عنقي بانحناءة شديدة
للأمام، ولم يكن غريباً من رفقتي الصعود أمامي بمهارة من اختبر المدق عدة مرات، وقد لمحت بيد السائق قفص صغير من جريد
النخيل، مملوء عن أخره بعلب تونة وطماطم وبصل وبطاطس، وبعد صعودنا، وجدت نفسي ألهث
بشدة، ولساني يكاد يتدلى عن فمي، ثم عبرت بونى وهمود من فوق خندق غير عميق، ممتد بلوبلبة
أمام واجهة المبنى الطفلي العاري من المحارة والطلاء، بفاصل عدة أمتار، وامتداد
لأسلاك شائكه تحيط بالمكان إحاطة السوار بالمعصم، عدا نهاية المدق الصخري الذي
صعدناه للتو. وهأنذا أقف أمام مدخل المبنى، وأسكن للحظات، وأنا أشعر بغصة في حلقي،
وضيق صدر، فما هذا المبنى الطفلي المهترئ الذي يشبه ملجأ القردة، وواطئ جداً إلى
حد يثير الضحك، أعلى من قامتي بقليل، ومسقوف بصاج رمادي مضلع، بعث في نفسي كآبة
خاصة تأخذ مكاناً في الروح والقلب، هذا في الوقت الذي راحت فيه الريح تلعب، في
نزاع محموم، بغسيل متداخل منشور على حبل غسيل مشدو، وممتد على جانب التبة الأمامي،
من ساري خشبي إلى أخر.
كان
الخندق مؤطراً من الجانبين بأكياس من الخيش مملوءة بالرمال، وعدة سحالي خضراء
وخنافس سوداء، ترعى بداخل الخندق بلا مُبالاة بالوافد الجديد، فسرت في بدني، رغم برودة
عفية، رجفة المحموم.
دخلنا
تباعاً من فتحة مستطيلة بعلو القامة، تتوسط واجهة مبنى النقطة، متخطين عن يميننا
دكة خشبية، تعلوها كوة مربعة في الجدار، تتسجى على أرضيتها علبة من الصفيح بداخلها
نبتة صبار ذات خضار مُعتم.
بعد تخطينا جدار النقطة الأمامي، إتجهنا يساراً،
عابرين دهليزاً قصيراً ضيقاً، يتراص عن يميننا بأربعة أبواب خشبية واطئة بشكل لافت،
لأربعة غرف طفلية مكسوة بالأسمنت المطلي بطلاء جيري باهت. الغرفة الأولى مشرعة
الباب، والثانية والثالثة مغلقتا، أما الرابعة. فمفتوحة عن أخرها، وفي مواجهتنا
مباشرة غرفة خامسة عن يسارنا بباب نصف إغلاق، لا يزيد طولها عن المترين، ولا يزيد
عرضها عن المتر ونصف.
من روايتي القادمة “نقطة 14 مراقبة”