لماذا لا تكون أختي من الأنبياء؟

 

كانت عين الشمس على شروق؛ ثم أشرقت في سكون مطبق؛ يعززه تغريد
عصافير متفرقة؛ وأشجار السرو والنخيل والسنط والزنزلخت والكافور؛ خصيبة وسامقة وممتدة.
وكانت الحياة تغمز بعينها في وقاحة تحت ضوء عين الشمس. وبعد أربعة أعوام من ولادتي
العسرة تلك؛ يكتشف أبي وأمي بأني ولد ملبوس بجن مصوَّر؛ وهو أمر؛ كما ترون؛ مهول ومفزع؛
لأني كنت ولد شقي جداً؛ عنيد ومُشاكس, بل؛ ومعجون بماء العفاريت؛ كما أخبر عني الكل؛
ولا أتورع عن فعل أي شئ؛ حتى ولو مصيبة؛ وكانت أمي تضربني ضرباً ياما مبرحاً؛ لا أدري
له سبباً آنئذ؛ ربما؛ والله أعلم؛ لآني كنت ولد جم النشاط؛ كثير الحركة؛ أضرب الأرقام
القياسية في الصعلكة والصياعة؛ واللف؛ على غير هدى؛ بأنحاء القرية؛ والقرى والنجوع
والعزب والكفور المجاورة؛ وأقضي وقتاً راكضاً بين الحقول؛ مطوف في الأجام والأشجار؛
أو متنزهاً على جسر الترعة؛ وكنت سعيداً بذلك كل السعادة. وكان يتفق لي؛ في بعض الأحيان؛
أن أهرب من الدار في ساعة مبكرة من الصباح؛ فأمضي إلى الترعة؛ أو إلى الحقول؛ أو إلى
بستان ورود الخاله ماريَّا؛ أو أجري إلى المزارعين؛ أختلط بهم؛ وأشاركهم عملهم؛ غير
عابئ بعين الشمس التي تحرقني؛ غير خائف أن أضل طريقي إذا ابتعدت عن القرية؛ أو أن تخدشني
أشواك العوسج؛ وأن تمزق ثوبي. وكان يبدو لي أنني أستطيع على هذه الأرض؛ أن أبين للأرض؛
التي تعرض لي بتوسل صامت؛ شيئاً من الحُب؛ وكنت أنا نفسي أضحك من هذا التصور. وقد تحولت
هذه التجولات إلى قاعدة لحياتي؛ وتدريب متواصل؛ لا أدري حكمته الكامنة؟!. فالكثير من
الأمور التي تحدث لنا في الحياة تبدو غامضة. وفي كل حالة غياب؛ كنت؛ كأمر قدري؛ أتلقى
علقة ساخنة من يد أمي؛ ديدنها: علقة تفوت؛ ولا أحد يموت؛ والأدب فضلوه
عن العلم. و
اضرب ابنك واحسن أدبه؛
ما يموت إلا ان فرغ أجلُه.

كانت جدتي حليمه؛ أو جدتي المُنقذة؛ كما صرت أطلق عليها فيما
بعد؛ تتقدم لخلاصي من بين براثن يد أمي؛ وهى تصرخ في ابنتها الشرسة؛ موبخة إياها؛ وملوحة
بعكازها الخشبي في وجهها الطازج؛ المكور؛ الأبيض؛ فلقة القمر؛ وقد انحسر كُمها الواسع
عن سمانة ذراعها النحيلة؛ المرفوعة؛ وعندما تيأس جدتي من استجابة ابنتها لها؛ تخفض
ذراعها؛ وهى تستحلفها؛ والدموع تملأ عينيها؛ بالسِّت الطاهرة؛ أن تتركني وشأني؛ فتتركني
أمي؛ على مضض؛ والشرر يتطاير من عينيها ألوان. وقتها لم أكن أدري من هى السِّت الطاهرة؟!.
وما سبب طاعة أمي العمياء لها؛ لا طاعة جدتي الحنون؛ الطيبة؟!. هل هى السيدة زينب؛
الوحيدة من بين الأنبياء القادرة على شفاء جدتي من الوجَع؟!. أم هى مريم البتول؛ العذراء؛
التي ترفرف روحها؛ أحياناً؛ فوق صليب سطح دير ملاك كنيسة حِنيّن المعدني؛ فيعود البصر
إلى بعض العيون العمياء؛ وتدب الحركة في بعض السيقان الكسيحة؟!.

أذكر أني قلت لجدتي المُنقذة ذات مرة: لماذا لا تكون
أختي نبيَّه؟!.

تضحك جدتي بكركرة داوية؛
مخيفة: أي واحدة منهما تقصد؛ فاطمه؛ أم عليَّه؟!.

أرُد بسرعه: فاطمه.

بغمزة من عينيها المغبشتين؛
الضامرتين: ولماذا فاطمه؟!.

أبتسم بخجل طفولي: لسببين.

الأول؟!.

تقول جدتي؛ فأجيب: لانها
لا تنعتني بالحمار مثل عليَّه.

     حمار؟!.

     نعم حمار؛ ألا تذكُرين يا جدتي؟!.

     لا. لا أذكُر.

أتنحنح نحنحة خفيفة: يا
جدتي؟!.

    والله يا ولدي لا أذكُر.

أمصمص شفتاي: لا عليك يا
جدتي؛ لا عليك؛ لا تحلفي؛ أنا أصدقك.

وأقص على جدتي قصتي مع
عليَّه؛ وفور انتهائي من سردي؛ تضحك جدتي بذات الكركرة الداوية؛ المخيفة؛ وتضرب بعكاذها
الخشبي الأرض؛ بلا أدنى محاولة للإستلقاء على القفا هذه المرة؛ ولا أدري لماذا: نعم
تذكرت؛ نعم تذكرت.

كانت قصتي مع أختي عليَّه شائكة؛ تبدأ بأن تغابيت عليها؛
رغم أنها أكبر مني بسنتين وشهر واحد؛ وانتزعت؛ بغلاسة وغلظة منقطعتا النظير؛ من يدها
الصغيرة بمبوناية؛ وهى نوع من الحلوى لذيذ جداً؛ وأكلتها عنوة؛ أي دون إرادة منها؛
فأخذت تبكي بشده؛ وتضرب بقدميها الأرض؛ وتصرخ كالمجنونة؛ أو كالممسوسة؛ فطلبت مني جدتي
المُنقذه؛ لإرضاء عليَّه؛ أن أمشئ على أربع؛ وأصهل كالحصان؛ وأخذت تقول لها: هل تركبين
هذا الحصان الصغير؛ أم أركبه أنا؟!.

فتقول عليَّه: إنه حمار؛
وليس حصاناً.

فتضحك جدتي؛ وتضحك أمي
كذلك؛ فأغتاظ بشدة؛ وأقفز قائماً على قدميّ؛ وأنا أصيح محتداً: لست حماراً. فتنهرني
أمي؛ وتأمرني جدتي أن أعاود الإنحناء؛ كعقوبة لي؛ لتركب عليَّه على ظهري؛ فأفعل على
مضض؛ عاقداً العزم على مخاصمة جدتي المُنقذة تلك؛ ولكن؛ لوقت قصير؛ لأني أحبها؛ ولا
أطيق مخاصمتها لوقت طويل؛ والثأر؛ فيما بعد؛ من أختي عليَّة التي كانت تميل أيضاً إلى
الأفعال الغريبة؛ التي ربما لا تتفق مع جنسها؛ ولا سنها؛ ومحاكاتي أنا وأصدقائي من
الأولاد في ألعابنا العديدة الخطرة؛ مثل المصارعة واللكم؛ وتميل كذلك إلى العراك مع
الأولاد والبنات؛ وبخاصة معي؛ ومع أختي فاطمة أول العنقود؛ الندية؛ الهادئة هدوء مياه
الترعة ساعة بقونة؛ والتي تكبر عليَّه بعامين ونصف العام تقريباً.

كانت عليَّه تضربنا بما
تصل إليه يدها؛ وتصرخ إن حاولنا الدفاع عن أنفسنا. كانت تحرص على أن تلفت الأنظار إليها:
تركب الحمير وتتسلق الأشجار؛ وربما تأخُذ ما بداخل الأعشاش من البيض؛ أو فراخ الطير؛
حتى النخلة العالية السامقة في بيت صديقي مينا؛ كانت تصعد إليها مثلنا نحن الأولاد؛
تنط وتقفز؛ تهمل نداءات لوليَّا أم مينا؛ بأن تنزل من النخلة؛ ولكنها تواصل التسلق
حتى تبلغ أعلى النخلة؛ ثم تبدأ في الهبوط؛ ولوليَّا تحت النخلة حتى تهبط؛ فتربطها برفق
في النخلة نفسها؛ حتى لا تعود إلى ما فعلت؛ أو تطردها؛ وهى تربت بحنو على كتفها النحيل؛
وتقفل باب الدار. وكانت عليَّه تصر أيضاً على أن تصحب أبي وأمي؛ فلا تطيق البقاء في
الدار. كما كانت دائمة اللعب معنا نحن الأولاد؛ وتشاركنا في ألعاب نط الحبل؛ والقفز؛
والأستغماية؛ والحجلة؛ ونطة الإنجليز؛ وحميده ولدت ولد؛ وعسكر وحراميه. كما أنها أهملت
تخويف أمي وجدتي المُنقذة لها من سُكان الأقبية؛ ومخلوقات النار؛ والأعين الملتمعة
بالشر؛ والمتاهات؛ والنداهات؛ وابو رجل مسلوخه؛ والطاحونة المهجورة؛ وهلُم جرا.

     والثاني؟!.

تقول جدتي المُنقذة؛ فأجيب:
لأنها بيضاء؛ مثلك يا جدتي.

تضحك جدتي من جديد بذات
الكركرة الداوية المخيفة؛ وتضرب بعكازها الخشبي الأرض؛ وهى تستلقي على قفاها من كثرة
الضحك؛ وعندما تنتهي من وصلتها المرحة؛ المخيفة تلك؛ تعتدل دامعة العينين؛ تلم ذيل
جلبابها الأبيض الشاهي؛ بأكمامه التي تغطي مرفقيها؛ ثم تقول؛ كما لو كانت تتحدث كالعادة
مع نفسها؛ أو إلى أحد آخر لا أراه أنا؛ كلما سرحت مع سنوات عمرها العديدة؛ المديدة:
ولكن يا ستنا الطاهرة؛ أيكون الولد قد فقد عقله؟!.

وعندما تنتبه جدتي لوجودي؛
تحتضني بقوة؛ وهى تطبع قبلة ماصة ضامة لا غير على خدي الأملس؛ أتلوى لها؛ ولكني لا
أحتاج إلى مسح مكانها؛ كما أفعل مع خالتو حميده؛ والكثيرات من فتيات ونسوة القرية المائعات
الخليعات الماجنات؛ صاحبات القُبَل الماصة؛ الضامة؛ الطرية؛ الندية. وبعدها تقول جدتي
بجدية لا أدري لها سبباً آنئذ: يا حبيبي؛ لا يوجد بين الأنبياء إمرأة واحدة من الأصل؛
بيضاء؛ أم سمراء؛ أم بين البيّن.

أستغرب بشدة: كيف هذا؟!.
وبعد ذلك؛ لا أكترث.

كانت جدتي المُنقذة لا تشكو علَّة أبداً؛ بل تُظهر إحساسها
بالمرض حين تخلط الأعشاب بالماء العادي؛ أو ماء الورد؛ وتدهن مواضع في جسدها. وبالرغم
من ذلك؛ كنت في كل مرة أتعرض فيها للضرب من أمي؛ أنفلت سريعاً من حضن جدتي؛ فهى؛ على
أي حال؛ وهن العظم منها؛ ولن تقو على حمايتي أكثر؛ إن فكرت أمي في مواصلة ضربي الذي
انقطع بتدخل قوة لا يُستهان بها؛ وهى ستنا الطاهرة؛ لا جدتي المُقذة؛ كما كنت أتصور
آنئذ. لذا كان لوذي الدائم بالمندرة البحرية؛ مكان ولادتي؛ القريبة من شجرة الجميز
وباب الدار الخشبي السميك برسوماته النباتية الضامرة؛ والذي لا يغلق إلا في آخر الليل؛
أو بعد عودة سرب البط والآوز من رحلته اليومية إلى مياه الترعة بغرض التريض والإستحمام؛
هو ضرورة حياة؛ ذليلاً؛ مدحوراً؛ تنحدر الدموع من عيني؛ أمسحها بظهر كفي؛ وأمسح؛ في
صمت؛ مخاطي في طرف كُمي؛ وأنا أنظر إلى صورة مريم البتول العذراء الملونة وبين يديها
رضيعها الجميل بصورة مبالغ فيها؛ وبجوارها صورة أخرى ملونة للكعبة المشرفة؛ ورجل عجوز
بجانب الكعبة يرفع يديه بالدعاء؛ وصورة ثالثة؛ أبيض في أسود؛ للملك المُفدى فاروق ملك
مصر والسودان؛ بطربوشه ذي الذر الأسود الطويل.


من أجواء روايتي القادمة “أفران الدم”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top