خبر عم زيدان


كنت
أتوقع أن أرى ما يشير إلى قرية مليئة بالمنازل؛ أو على أقل تقدير بعض الأسطح
المفروشة بالقش؛ أو الحطب؛ إلا أني لا أرى شيئاً من ذلك؛ ولا وجود للقرية؛ وكل ما
يدل على تواجدها في هذه البقاع قبل حين من الزمن هو أشجار النخيل العالية؛ القليلة؛
المنتصبة وراء حقل الذرة.

نقترب
من المكان؛ ونرى بقايا الجثث المحترقة؛ والجدران المهدمة؛ المتفحمة؛ المستلقية في
الأحواش والأحراش التي نبتت فيها أعشاب كثيفة؛ ولا يبقى كثيراً من الدور الطينية والأكواخ
غير بعض الأفران؛ والأشجار القريبة من أماكن الحرائق تنتصب عارية؛ جافة؛ ولا أوراق
على أغصانها.

شجرة
النخيل المطلة على البئر لا زالت خضراء من جهة واحدة؛ أما الجهة الأخرى المحروقة
فقد مدت شواشيها المتفحمة نحو السماء بشكل غريب؛ وعلى تراب الأحواش والأحراش تتناثر
طشوت؛ وأزيرة؛ وآنيات فخارية محطمة؛ وأدوات منزلية مختلفة؛ وعصي؛ وخرق رمادية
مدممة؛ وبقايا ملابس ضاع زهاء ألوانها إلى الأبد؛ إن كان للأبد أخر؛ وحلل نحاس
منبعجة؛ وأياد ضخمة مجهولة؛ لوتها وملأتها حفراً صغيرة؛ وعلب لحم محفوظة فارغة؛
وحزم ثوم سليمة تماما؛ وقفه من خوص مجدول بها ثياب؛ وأربعة أرغفة شمسية فوق صحيفة
مطوية؛ وكيس تفوح منه رائحة ملوخية ناشفة. هذا موقد غاز؛ وتلك حلة من نحاس؛ وهذا
براد شاي من الصاج الأزرق؛ المنقط بدوائر بيضاء؛ وأربعة أكواب من زجاج.

المكان
يملؤني بحزن عفي؛ قاس؛ يأت في موجات متتالية؛ كهجوم انتحاري؛ حزن يجفف اللبن من
صدور الأمهات؛ ويعيده إلى نهود العجائز: آه من لون النهار الراحل المبتعد.

الغريب
أنني أرى سرباً من أوز أبيض يعبر إلى جهة الشرق؛ ومعه أشعر بأن اللحظة التي نمر
بها الآن هى لحظة من خارج الزمن؛ متجمعة؛ متصلبة؛ قوامها التوتياء؛ وعروق سوداء
رفيعة؛ وإبر؛ وشوك؛ لحظة هى زمن قائم بذاته؛ لا أول له؛ ولا أخر؛ بلا بداية؛ أو
نهاية؛ أقول خفية: كيف سأذكرها لو عشت مائة عام غير أنني أراها بعيني العمر نفسه؛
كما أراها الآن؛ حر الجو؛ وقشعريرة عنقي؛ وطعم النحاس المجنذر؛ واتجاه الريح
الخفيفة؛ الباردة؛ التي جاءت لحظتها تماماً؛ فعرفت أني تقدمت في العمر قدراً لا
يحسب بالسنين؛ وأن كل ما عشته قبل الآن ينتمي إلى أجيال شديدة البعد؛ لا صلة؛ لا
علاقة؛ لا رابطة بيني وبينها؛ حقا فقد أدركتني بدايات الشتاء؛ ونحن في أول أغسطس
ثامن شهور العام؛ أقول جاءتني بدايات الشتاء؛ لأن سبتمبر يلي أغسطس؛ ولا أحسبه من
شهور الصيف أبداً؛ ولماذا أحسب سبتمبر من شهور الصيف؛ أو هواءه أرق؛ وأشرب ماءه؛ فأذكر
أياماً حلوة راحت مني؛ سباخها فرح؛ سماؤها بلا غيوم؛ ناسها يضحكون؛ راحوا مني؛
راحوا؛ وقتها قال رجل كهل باسم الحضور؛ وديع الوجود؛ طالب القرب ممن أحب قبل بدء
البعاد؛ هو الحاج زيدان صاحب المقهى؛ والنخيل؛ وشجر البرقوق والتفاح؛ والبرتقال؛
والزيتون: أنت شاب يمكنك الصبر.

بدا
لي القول سخيفاً؛ وفض مجالس؛ لم أنظر إليه؛ لم أنطق حرفاً؛ ورأيت الورق؛ وعيدان
القش؛ والجثث –الممزقة فوق الأرض؛ وتساءلت: لماذا لا أذرف دمعة يبلل ملحها طرف
لساني.؛ فقط أرى صورة أبي بين النوم واليقظة وهو في حالة ضجر؛ أرق؛ قلق؛ ضيق؛ أتذكر
ما قاله عم زيدان ذات يوم أنه عند الأرق يناغش امرأته؛ يطلبها؛ فيهمد؛ فينام. رأيت
عضو أبي مولج في أمي؛ خجلت؛ فقد كشفت أمراً كان ينبغي أن يستر؛ وهكذا؛ وقفت على
أول مشروعي؛ ورأيت أول سعيِّي في الحياة الدنيا؛ عندما سعىَ شطري من أبي ليلتحم
بجزئي من أمي؛ علمت أن برعمي من شجرة الكون مسقى بالضجر؛ والأرق؛ والضجر؛ والضيق؛
والخشية من الغد الآتي؛ علمت بأنني بدأت شقياً؛ وسأعيش شقياً كأبي؛ كما بدأنا أول
خلق نعيده؛ سأنتهي كما بدأت؛ هذا ما لازمني؛ وما صاحبني؛ بعد أن رأيت ما رأيت؛
خشيت ما لا يجوز الخشية منه؛ ألا أوجد؛ مع أنني وجدت بالفعل؛ ماذا كنت سأصير إليه؛
لو أن النوم غلب أبي؛ لو أن أمي لم تستجب؟. لو أنه استلق على الظهر؛ واندفق منيِّه
في حِلم ليلي؟. لو أن الذرات المؤدية إلى تكوني ضلت طريقها إليّه؟. ماذا لو أن أمي
لم تخرج في ذلك اليوم؛ ولم تعبر الرحبَّة؛ ولم يرها أبي؛ ولم يسأل الشيخ عبد
اللطيف: إبنة من؟ فيجيبه: أزوجها لك.

أذكر
عندما نزلت غزه من عدة شهور؛ قبل مصيبتي؛ وجاء عم زيدان بكوب الشاي المعطر
بالنعناع؛ منحنياً؛ متطلعاً إلى الأرض؛ ورأيت وجهه مهموماً؛ فعلا عمره الستون؛ بل
أعطيته أكثر؛ وسألته عن الحال؛ فقال إن حادثاً وقع اليوم؛ وكان فظيعاً؛ فقلت بأن
كل ما يجري فظيعاً ياعم زيدان فهز رأسه؛ وأسند صينية النحاس المثقلة بأكواب الشاي
الفارغة؛ وفناجين القهوة؛ وزجاجات الكوكاكولا؛ وقال: إن نجاراً من الناصرة عاد إلى
هنا؛ إلى غزه بعد أن ضاق به الرزق؛ ولم يطق البعد؛ أو قل بأنه لم يعرف كيف يعيش
هناك بلا أرض يملكها. رجع إلى هنا يصلح نافذة؛ أو مقعداً؛ أي عمل يحتاجه فيه أحد.
يحمل شيئاً؛ أو ينظف مكاناً. يعني يلقط رزقه من هنا وهناك. جاءني مرة هنا؛ وقال:
أمسح لك المقهى؛ وتعطيني ما فيه النصيب. والله يا إبني أعطيته من جيبي ما قسم به
الله؛ ولم أسمح له؛ فهو يقاربني سناً. المهم أن امرأته وأولاده الثلاثة بنتاً
عروسة وأخرى في العاشرة؛ وإبناً إبن سنة على باط أمه؛ جاءوا جميعاً لزيارته؛
وباتوا ليلتين؛ وفي صباح الثالث؛ رأيته من على باب المقهى؛ وهو يتوقف أمام باب
المطعم على الرصيف المقابل واشترى خبزاً؛ وباذنجان مقلي؛ وأثناء عودته؛ جاء طيران
العدو؛ وكما تعرف ياسي قاسم يجئ الطيران بغتة؛ ويضرب المنطقة؛ وفوق البيت؛ فوق
البيت بالضبط يا سي قاسم كأن القنبلة نزلت بخيط من الطائرة إلى الأرض؛ ألف رطل
قلبت البيت؛ حقاً  وما تدري نفس ماذا تكسب
غداً؛ وما تدري نفس بأي أرض تموت. وسكت عم زيدان برهة؛ ثم واصل: المسكين رأى
أولاده يخرجون من البيت المهدم بعد أربع ساعات من الغارة فوق طاولة خبيز؛ نصف الأم
الأعلى؛ يداها يا سي قاسم كأن الحياة بقت فيهما تضم أبناءها الثلاثة؛ حتى ابنتها
الكبرى؛ السليم الوحيد فيهم كان الطفل؛ أه لو رأيت عينيه؛ إنهما مفتوحتان عن
آخرهما؛ أنا في حياتي لم أر عينين مفتوحتين كما رأيت عينا هذا الطفل؛ كانا
كالبرقوق؛ تراهما وأنت واقف بين الرجَال فتخاف. الولد كان يسأل بعينيه عن سبب موته
في أول العمر؛ ولماذا جاء إلى الدنيا إذا كان موته سريعاً بهذا الشكل؛ أنا في
حياتي لم أر طفلاً يموت؛ فربنا لم يعطني؛ ولم يأخذ منِّي؛ ولكني رأيت موتي أنا؛
رأيت لحظتي في عين الطفل؛ ظننت أن دموعي خلصت من زمان؛ لكني نِِحت على الضحايا
كالمرأة؛ أما أبوهم؛ فلم يرد على أحد؛ نزل عليه سهم أسكته؛ إذا أمسكت يده يطاوعك؛
تأمره بالمشي يمشي؛ القعود يقعد؛ لكنه لم يبك أبداً.

ينتهي
عم زيدان فيعكمني حزن؛ ويفريني ضيق؛ وأروح أفكر: أتصور أن يحدث هذا لأي إنسان في
العالم؛ أما أبي وأمي وأخوتي؛ فلا؛ لا يمكن؛ وكما مر شهراً على انتهاء الحرب
الفعلية؛ رأينا فيها القنابل والطائرات؛ وما زلنا أحياء؛ فستمض أعوام وأعوام
والأعمار باقية؛ وسأبقى بعيداً عنهم؛ أصحو كل صباح في عملي بـعسقلان وأعرف أنهم
بخير؛ وأسأل القادمين من غزه؛ وأخطف رجلي آخر الأسبوع لأشرب حليب الضرع –الطازج من
يد أمي؛ لذا؛ لا؛ لا يمكن أن يرحلوا كما رحل الباقون؛ ولكن؛ يخيب فألي؛ وها هم قد رحلوا؛
وعندما سمعت الخبر  من عم زيدان تغير لون
الهواء؛ والفراغ ازداد اتساعاً وخواءاً؛ وقررت في اليوم التالي الإنضمام إلى
المقاومة؛ وفي الطريق يوقفني عم زيدان؛ ويبتسم لي وهو يقول: كنت تود وطناً غيره.

 أتآلم؛ فيقول بتأن بالغ: وكنت تود أباً غيره.

-هذا
بعيد عنِّي.

-وكنت
تخجل من التصريح بوظيفته؛ وعمله كساع.

 أسبل جفني كبديل لإطراقة رأسي: كان ذلك في زمن
جاهليتي؛ قبل هدايتي؛ وانحيازي إلى وطني؛ وإلى الفقراء أمثالي؛ ومحاولتي تبديد
الظروف المؤدية بهذا إلى فقر؛ وهذا إلى ثراء.

-هذا
حق؛ وما ذكرته أنا حق.

-عم
زيدان لم أتخيل الفراق أبداً؛ كنت أصغي إلى القرآن يصف يوم الهول الأكبر؛ يوم تذهل
كل مرضعة عما أرضعت؛ وأحزن لمجرد تصوري أنني سأشغل عن أبي وأمي؛ وأخوتي يوم الحشر.

-كنت
صغيراً؛ ضعيفاً؛ في حاجة إليهم؛ أما الآن..

 أتضرع: ياعم زيدان أنت تقسو عليّ.

-يا
ولدي؛ أنا أعلم الناس بما تكابد؛ أعلم أن الشفقة ملازمة لانضمامك؛ فتأهب أولاً؛
لتحل بمقام الإنضمام.

-أيطول
مقامي؟.

-لما
كان الخالق كل يوم هو في شأن؛ كان تقليب العالم من حال إلى حال؛ فلا يثبت العالم
قط على حالة واحدة؛ لآن الله خلاق على الدوام؛ ولو بقى العالم على حال واحدة
زمانين؛ لاتصف بالغنى على الله؛ ولكن الناس في لبس من خلق جديد؛ فسبحان من أعطى
أصل الكشف والوجود والتنزه في تقليب الأحوال والمشاهدة لمن كل يوم هو في شأن؛
فافهَم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top