الجمل حامل الصواريخ

 


أتقلب بالفراش تقلب المُحتضر، أشعُر أن جسمي
خفيفأُ، كما لم أعهده من قبل، مملوءاً بحيوية متصاعدة، حتى أني أتوقف عن الحياة
كجسد، أصبح شفافاً، أتلكأ صاعداً في الفراغ، كسحابة من دُخان، لا أمتلك عظاماً، لا
أمتلك لحماً، أتبخر في الهواء، يُحيطني غشاءُُ شفاف، ولا شئ يصدُني، لا أدري إذا
كُنت أصعد، أم أهبط من فوق التبة، يغمرني سُلطان النجم والظلام، وفجأة، يولد ضوء
أصفر باهت، يمتد نحو سلسلة الجبال الراسية، يا إلهي، إنه يكبُر بُسرعة، يزحف نحوي،
أحاول الفرار، أفر، أنتهي من جديد إلى حياة موت، ولكن، يفترق جفني لعُشر الثانية،
ثم أدخل في ظلامي، أختبئ في أعمق أعماقي، صورة نقية، واضحة، قاسية، ترتسم على
شبكية العقل، رقيقة التكوين كجناح خفاش، خيوطها حريرية، واهية، كخيوط العنكبوت،
تظل هناك ثابتة، ومعها يتلاشى وعيي بالمكان، بالزمان، وعلى رتابة وقع خطوات راعي
الإشارة القائم بالحراسة بالخارج، ومشهد أول خيوط النهار، وهى تُغازل ثقوب النافذة،
أروح في سبات عميق، ومع بداية النهار، أنهض من فرشتي، ثقيل، بطئ، أتثائب، أفتح
المبيت، أتخطاه بانحناءة آلية، أغلق بابه، أزيد من إحكام شال رأسي، الجو بارد
كعادته، الريح ملساء، أبحث –ببصري عن موقع الحمام، وقبل ذهابي إليه، ألمح بالوادي
جملاً صغيراً، أدهماً، يحرك ذيله القصير، ويلعب رافعاً قائمتيه الخلفيتين، مندفعاً
على سفح كثبان رملية، فأبتسم له، وهو يتوقف، يحني رأسه، يرفس، ينهب الوادي، يلقي
بنفسه على الكثبان، يتسلقها كذبابة سوداء، ضخمة، المشهد مرح، ولكن، تنزل الأسئلة
كعصا نقرزان، حلقات غليظة في سلسلة حديدية ساخنة، تلهب مني العصب، تقتل النخاع،
تجفف ماء الحياة، ومعها أود لو أزعق من فوق مئذنة:أين هى الطيور؟!، بل أين صوت
الحياة، وما مداه؟! ولمَ لا تتكلم تلك الجبال الراسية، النائية؟! هذا الضباب
الشفيف، تلك التلول والكثبان والتباب والهضاب والصخور والشُجيرات العصية على الفهم،
مع أنها في متناول الرؤية والإدراك؟! لماذا لا تبوح بأسرارها؟! أية مفارقة تلك
التي تفصل بين الكائن الحي هنا وبين مُحيطه الواسع، الواسع جداً؟! كيف تُفهم تلك
الحهات الأربع التي تشير إليها بوصلة المراقبة على عامودها المعدني المغروس بإحكام
فوق ظهر التبة، في فضاء بلا سمات محددة، بلا معالم حقيقية، فضاء بكر، مسحور، منسجم،
يتشكل من الضوء والريح والبرد والغموض؟!، ومن عجب، أن ما قضاه أبي وجنوده في هذه
المنطقة من العالم يشبه عُمراً، في اليوم التالي، لليوم التالي، لليوم الذي تم فيه
الإستطلاع، قبل تنفيذ العملية الأخيرة، وقتها قال الضابط كبير الرتبة لأبي
المُقاتل:، إن موافقة مبدئية تمت، لقد التقى اقتراحك بالنوايا الموجودة، وأن
الكثيرين أبدوا إرتياحاً لتصديك لهذه المهمة، وأن ضابطاً كبيراً من هيئة الأركان
قال عنك إنك تحفظ سيناء عن ظهر قلب، وأنك قمت بالعديد من الدوريات في صحاري مصر،
وأنك تعرف هضاب الصحراء الشرقية ووديان الصحراء الغربية، وعندما تتوه دورية في
الصحراء، فأفضل مقتفي للأثر هو أنت، وأنك تعرف المدن من أضوائها عندما تبدو
للمُحلق بالطائرة، ومن آهلة مآذنها ومبانيها، كما تعرف المحافظات من تعرجات بحر
النيل وضيق واتساع المساحة الخضراء، في الهليوكوبتر تعرف بعد كم من الثواني ستشهق
قمة جبلية، وأي ممرات تخلو من دوامات الهواء، تشم هبوب العاصفة، وتدرك من لون
السماء متى يجئ المطر؟!، كما قال الضابط بهيئة الأركان أن قلب أبي أطلس حي مصر،
والحمد لله أن العدو لم يدرك قيمته حين قام بآسره، ثم عودته من جديد لبندقيته
الحبيبه، والآن واعتبرها من المفارقات المضحكة يستعينوا ببوصلة معدنية بدائية،
مصمتة، لماذا؟! يقولون لتحديد الإتجاهات في هذا الخلاء السحيق، وتبقى أمنيتي
المستحيلة في أن أزعق بأعلى الصوت:، يا إلهي الرحيم، أية نقطة مُراقبة تلك، وتراقب
مَن؟! أتُراقب الخلاء الأبدي القاهر، أم تراقب الريح، أم تراقب الطيور الكاسرة
التي غدت –من سطوة الرمل والصخور مُجرد زواحف؟! أم تراقب جيوشاً سرية، خرافية،
تتحين لحظة الإنقضاض، أم تراقب ما هو أكثر من ذلك، تراقب –مثلها مثل باقي النقاط
إمكانية الإستعداد الدائم للحرب للحفاظ على السلام، تلك المُراقبة التي خلقت عنوة
من أجلها وغيرها، ثم للطبيعة التي سلمت أمرها للخلاء والخلود، للرابطة الخفية التي
تجمع بين الكائن الحي هنا، وبين مُحيطه الواسع، الواسع جداً.

 يقفز الجمل من جديد، أتذكر بأنه كان
بمثابة
تطعيم لمعركة الإستنزاف، التي تلت حرب سبعة وستين، وتدريب حي عليها‏،‏
وفيها استطاع جنود مصر تحويل سفينة الصحراء ‏تلك إلى سفينة برمائية‏،‏ حيث دربوه
على السباحة في الماء، كما يمشي في الصحراء، بل وتكليفه بمهام قتالية‏،‏ واستطاعت
الجمال في تلك المعركة أن تعبُر قناة السويس، وتتسلق الساتر الترابي الذي تصل درجة
الميل فيه إلى سبعين‏ درجة‏ ودخول سيناء والقيام بعمليات خاصة‏،‏ حيث تبدأ المهمة
القتالية للجمل من الضفة الغربية للقناة، بعدما يمتطيه قائده من مؤخرته أثناء
سباحته بالقناة، وحتى الوصول للضفة الشرقية، بعد عبوره المانع المائي، ثم الترابي‏،‏
والعودة مرة أخري بعد تحقيق مهمته.
 ولأن جنود مصر لم يكُن يملكون
في ذلك الوقت طائرات الإنذار المبكر وجمع المعلومات، فقد وظفوا قدرات الجمل ليكون
جهازاً مُتنقلاً للمعلومات والإنذار، وكأنه رادار محمول‏، فقد تم تحميل الجمل
بجهاز لاسلكي عجزت إسرائيل عن العثور عليه، لأنه ليس جهازا ثابتا، وإنما جهاز
متحرك، يبث بشكل دائم ويومي الرسائل المشفرة من مجاهدي سيناء إلى القيادة غرب
القناة‏،‏ ولأن الجمل يصدُر عادة وبشكل دائم صوت يسمي رعاء خلال سيره ووقوفه ومن
الصعب التحكُم فيه، مما يعوق إرسال الرسالة المشفرة، ويكشف للإسرائيليين سر
الأجهزة اللاسلكية المتحركة فقد تم تدريبه على كتمان الصوت الذي يصدره وقت إرسال
الرسالة المشفرة، لأن أجهزة الإرسال حساسة للغاية، وأي مؤثرات صوتية خارجية تؤثر
على كفاءتها‏
، كما تم تدريب الجمل ليكون قاعدة صواريخ، يحمل على ظهره الصاروخ،
منطلقاً عبر المسالك الوعرة، بعيداً عن الحواجز التي أقامها العدو‏،‏ وقد برع
الجنود والمقاومين من أهالي سيناء في طمس أثار الجمال على الرمال، باستخدام
الأغنام التي تسير كقطعان، وبطريقة لا تدعو للريبة،‏ فهذه أغنام ترعى وتبحث عن
الكلأ والعشب، وبالإضافة إلى الجمل فقد تم توظيف ‏طائر السمان، الذي يكثُر خلال
فصل الخريف، للحصول على معلومات عن كُل تحركات العدو وإيصالها إلى قيادتنا
العسكرية للإعداد لمعركة المصير‏، حيث في شهر سبتمبر من كُل عام يصل السمان من
موطنه الأصلي بوسط أوروبا إلى سيناء‏، ويقوم الأهالي –عادة بنصب شباكهم على ارتفاع
منخفض لصيده، غير أن هناك أعداداً كبيرة من هذا الطير، تتسرب إلى أحواض النخيل
‏‏وخمائلالنخجريد والحشائش‏‏، ويتابع المقاومونمن بدو سيناء عملية الصيد بعصا
طويلة، في نهايتها قطعة من الحديد الثقيل ‏العصا والدبوس‏‏، فإذا ما وجدوا أثراً
على الأرض إتجهوا خلفه، لأن طائر السمان لا يقف في الهواء، بل يختفي في جريد
النخيل الكثيف، ويبدأ شباب المقاومة وهُم عادةً شابان في مُحاصرة الطير، وبإحداث
حركة، يخرج الطير على رجليه مسافة، ثم يطير في الهواء‏، وهنا تبدأ عملية صيده
بالعصا والدبوس،‏ وفي أثناء الصيد، يقوم الشابان برصد مواقع العدو، وجمع المعلومات
عنها، وكان موقع رُمانه –كمثال يحده من الجنوب حوض نخيل مُتصل، وهو موضع مُناسب لاقتفاء
السمان، بدون إثارة أي شك في نفوس الإسرائيليين، الذين يقيمون في هذا الموقع المهم
على ساحل رُمانه‏،‏ ويستمر الشابان في ملاحقة ومتابعة السمان، والهدف الحقيقي كان
جمع المعلومات عن هذا الموقع ونشاطه‏،‏ حيث كان من بين الأهداف المنتخبة التي قامت
قواتنا المسلحة بقصفها بالصواريخ بمعرفة ‏‏منظمة سيناء‏‏ العربية، التي كانت تقض
مضاجع المحتل الإسرائيلي، وذلك وفقا لخطة قواتنا المسلحة في إزعاج العدو، وتدمير
أهدافه، وقد تطلب الأمر في حالات عديدة، أن يتم تكليف راعية الغنم السيناوية بمهمة
وطنية، وليس أغنامها فحسب‏،‏ فطبيعة ثوب البدوية الراعية فضفاض، ويسمح بإخفاء أي
مُعدة فنية بين طياته‏،‏ كما أن مظهرها مع الغنم لا يثير أي شك إطلاقاً، وكانت
البدوية تسير خلف غنمها وبيدها المغزل الذي تستعمله لغزل الصوف، والكاميرا، أو
المعدة الفنية الدقيقة في الحفظ والصون، حتى تصل إلى إحدى شجيرات العجرم، أو القيصوم،
أو العاقول، المنتشرة في الوديان، ثم تقوم البدوية بتخزين الكاميرا أو المُعدة
الفنية بتجويف الشجرة‏،‏ وقبيل الفجر، يتم دفع أحد الأفراد المُدرَّبين ليصل إلى
الكاميرا، ويستخدمها في تصوير المعسكر المُعادي‏، وبعد انتهاء مهمته يسارع
بالإنضمام لمجموعته، للعمل في مكان آخر‏،‏ وفي إحدى عمليات أبي الخاصة التي قام
بها وجنوده الأربعة، وبعد نجاحها، يفروا للإختفاء عن أعيُن العدو، وكان إختباؤهم
بين مجموعة من الخصوص ‏(عشب من جريد النخيل‏‏) مما استلزم أن تقوم إحدى البدويات
باستخدام أغنامها لطمس آثار المجموعة، مما أثار الإسرائيليين وأحبطهم،‏ وفي طريقهم
بعرباتهم الجيب بجوار الخصوص المختبأة فيه المجموعة تفزع الأغنام وتتفرق، فتصيح
البدوية الذكية في العدو الذين يسألها:دي غريبه؟!،‏ فترُد بكُل شجاعة وثبات:ما
غريب إلا الشيطان!، وتستطرد قائلة:إذا كُنتم تسألون عن ضيوف، فاذهبوا إلى مقعد
الرجال، وكفاني ما أصابني وأصاب غنمي!‏،‏ وبعد أن تُغادر الدورية المكان، تهرع
البدوية إلى حيث تختبئ مجموعة أبي وفي يدها إبريق من الشاي تقدمه، وهى تخبئه
بوشاحها إليهم بكُل حُب واحترام وثقة، وقد أطلق موشيه ديان وزير دفاع إسرائيل وقت
حرب الإستنزاف على مجموعة أبي وغيرها إسم الأشباح، إذ كانوا يدمرون أهداف العدو
بالصواريخ، دون ترك أي أثر خلفهم، وكانت حيرة العدو وتساؤله، كيف تمكن هؤلاء
الأشباح، أو ذئاب الليل، من نقل تلك
الصواريخ من الضفه الغربيه إلى الضفه الشرقية؟! ولما لم يجد الموساد
لديه إجابه على هذا السـؤال، إخذ يستعين –فيما بعد بالبنتاجون وزارة الدفاع
الأمريكية، ليفسر لهُم خبراء الحرب الأمريكان، كيف تنقل هذه الصواريخ في الخفاء،
وتمُر من القناه ليلاً، وتتسلق خط بارليف، وتصل إلى أهدافه، ولكنهم –أيضاً عجزو
ا عن تفسير الأمر، فهو في رأيهم مُستحيل، وعندما عرف الأمريكان كيف حدث
ذلك بعد سنوات من الحرب، وبعد أن صرح لهم جهاز المخابرات العامه المصرية بذلك لم
يصدقوا الأمر، فأرسلت أمريكا بعثه من كبار خبراء الحرب لديها، ليروا بأنفسهم
الجمال حاملات الصواريخ
التي
إخترعها أهل
سيناء:نعم يا أبي، عندك حق عندما قلت لي –قديماً
بأن أهمية المرئي لا تكمن فيه وحسب، بل في العين التي تراه والبصيرة التي تفسره، وهأنذا،
أهدأ وأستكينً في طريقي إلى الحمَّام!.

  من مجموعتي القصصية تحت الطبع “عريت جولدا”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top