لست خائفاً

 


كانت بقايا أشعة الشمس في نزعها الأخير، تفرش الوادي والتبة، وهأنذا أدلف في
ذيل زملائي، ثم أتمدد على سريري بهمود، القابع عن يمين مدخل المبيت، في حين أوسع عيني،
حالما تحدثني نفسي الأمارة بالهلع والضجر والسأم (قدومي إلى هنا هو بالتأكيد الكابوس
بعينه، ولا فكاك منه). ومن تهويمتي تلك، أفيق على كف ثقيل يداعب كتفي، فألتفت، فإذا
بالصول “مصطفى” بعينين ثاقبتين، يقول لي: -أنرت النقطة يا فتى. فأتوجس خيفة،
في حين يسحب الصول يده من يدي، ومن بعدها، يتوسد هو والضابط “خميس” وعريف
المراقبين “فريد” حصيرة رثة، ضاع زهاء لونها إلى الأبد، إن كان للأبد
أخر.

يلم الصول “مصطفى” ذيل جلبابه الداكن، يخلع عباءته، يحكم لف خرقة
صوف الغنم على رأسه وكتفيه، ينظر باتجاه “فريد”، وهو يمد كفيه يستدفئ بمنقد
النار: -اللمبات أيضاً، ولا تبطئ.

ينهض “فريد” بتثاقل، ينظر الصول باتجاهي: -وانت.

بوجل خفيف: -هه؟.

-العشاء، ثم النوم.

أستجمع نفسي وأقذفها: -بعد الذي جَرى؟.

 يبرم الصولً طرف شاربه: -إنها عينة
يا فتى، وستأخذ مع الوقت على المكان، ثم إن حظك من السماء، قل لماذا؟.

-لماذا؟.

-لأنك في الشتاء المُنقذ.

-هه؟ الشتاء المنقذ؟.

-نعم، فمن النادر الآن أن يخرج أي كائن من وكره، وكل ما هنالك أن الثعبان القتيل
أتى للترحيب بك، وهو لا يعلم أنك قد تبول في ثيايك.

أنتبه، أنظر إلى بنطالي، فتهدر الضحكات العفية من فمي، ثم: -يقتلني الخوف، ولا
أبول في ثيابي أبداً سيادتك.

– إذن، لتسمع قصتي.

-قصتك؟.

-نعم يا فتى، فأنا راوي النقطة، مثلي مثل شاعر الربابة في الحواديت.

-لا غرابة في ذلك.

-ماذا تقصد؟.

– لكل جبل في الأرض، ولكل ثنية على شاطئ متاخم للبحر، ولكل تبة في قلب الصحراء،
من الحكايات والتفسيرات والتعليلات والرؤى، ما يملأ الصدور بالثراء.

-إذن، إسمع قصتي أيها الفيلسوف.

-كلي أذان يا حضرة الراوي.

يعتدل الصول في جلسته، ويتنحنح قليلاً: -كان هناك قصر عظيم، أعتابه من العنبر
والأرجوان، جدرانه من الذهب، وأعمدته من نحاس، وأبراجه رخام، والبساتين من حوله تمتد
كالجنان، وفي يوم من ذات الأيام ظهر ثعبان، ليس مثل ثعابين تبتنا القتيل، النحيل، المسكين،
الجوعان، بل ثعبان مهول الحجم، يزحف مرة على بطنه، ومرة على  ظهره، ويأخذ يبتلع الأبقار والأغنام، ويهلك الزرع،
ويقطع الطريق على أهل القصر، وينفث فيهم دُخاناً كثيفاً، فيستنجد أهل القصر بالنبي
“محمد” عليه الصلاة والسلام، الذي يرسل إليهم إبن عمه “علي إبن أبي
طالب”، الذي يركب حصانه السرحان، ويشرع سيفه البتار، ويتبعه العديد من الفرسان،
ولكنهم حين يدخلوا القصر، يحيط بهم الدخان من كل حانب، وتهتز الأرض من تحت أقدامهم،
وتتساقط على رؤوسهم الأحجار، فيختبئوا في بئر لم يحمهم من الدخان الكثيف، ولا الدوي
المروع المنبعث من الثعبان..  

وهنا يتوقف الصول، وهو ينظر باتجاهي، والكل في حالة إنصات: -هل تعرف ماذا حدث
لعليّ رضي الله عنه وأرضاه؟.

بتوجس: -لا بالطبع، لا أعرف.

بعينين لامعتين: -بال على ثيابه يا فتى، حتى بعد أن نجح في ضرب الثعبان بسيفه،
وقتل من يعاونونه من الجن، وإعادة القصر إلى أهله.

ويستدرك الصول في حماسه: -أرأيت يا فتى، لا يوجد كبير أمام الخوف، فالخوف قد
لا يقتلك، ولكن قد يبولك.

بحماس أنا الأخر، بعدما أعجبتني القصة بدلالتها الرائعة: -ولكن خوفي مؤدب، وإن
لم تصدقني فانظر. ثم أقف فاتحاً ما بين ساقيّ، فيبادرني الضابط “خميس”، وهو
يضحك بقهقهة: -بالفعل، خوفك مؤدب جداً.

يعلق العريف “محمود”: -ومن يدريك أن خوفه مؤدب، أليس من الجائز أن
يكون مرجع ذلك إلى الجفاف ليس إلا.

نضحك كلنا كثيراً، وبعد هذا الفاصل من السمر، الصول لـ”خالد”: -إستعجل
الأولاد من المطبخ، ثم لي: -وأنت، أبدل ملابسك، وأخرج بطاطينك من المخلة. ويلتفت
يمنة ويسرة: -جرجس أين؟، أين جرجس؟.

 فيجيب “فريد”: -في غرفته.

 -ومادا يفعل؟.

-كعادته، إما يقرأ الإنجيل، أو في مجلة، أو يُحادث العفريت، أو يعطي التمام
للكتيبة.  

 وعندئذ يباغتني الصول: -إستعجله أنت
يا عادل، ودعه يأتي ببندقية الحراسة.


من أجواء روايتي القادمة “نقطه 14 مراقبة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top