قطعت
العربة عشرات الكيلو مترات، ومع ذلك، وكأنها في مكانها. والشمس باهتة، وحليب الغيم
والرمل لا يتغيرا، ومع ذلك، في تغير مستمر، وهل يشبه كثيباً من الرمل كُثيباً
آخر؟. وبالرغم. في صحاري “”سيناء”” تبدو الطبيعة خرساء،
كائناتها لا تعبر عن الحركة إلا بالسكون، فضائها مغيم وهو مشرق، والرمل يولد فيها
من رمل، والريح تنقلُه، وكأن بطن “سيناء” لا تحوي سواه، نصعد منه ونهبط،
كمن يتلمس فضاء امرأة منيعة.
العربة عشرات الكيلو مترات، ومع ذلك، وكأنها في مكانها. والشمس باهتة، وحليب الغيم
والرمل لا يتغيرا، ومع ذلك، في تغير مستمر، وهل يشبه كثيباً من الرمل كُثيباً
آخر؟. وبالرغم. في صحاري “”سيناء”” تبدو الطبيعة خرساء،
كائناتها لا تعبر عن الحركة إلا بالسكون، فضائها مغيم وهو مشرق، والرمل يولد فيها
من رمل، والريح تنقلُه، وكأن بطن “سيناء” لا تحوي سواه، نصعد منه ونهبط،
كمن يتلمس فضاء امرأة منيعة.
تهدئ
العربة من اندفعها الدودي، ومن ثم تقف قبالة إحدى التباب، وعندئذ. يصيح الضابط
“خميس” على اثنين من زملائي ليهبطا من العربة، وفي تلك اللحظة. يخفق
قلبي بشدة لمرآى التبة الغامض الكئيب، وذلك المبني الطفلي الواطئ جداً، بصفرته
الداكنة، واثنين من جنود النقطة يهبطان بلباسهما الميري الباهت، وكان عجباً. أن
يبدوان كشبحين لا يجيدان لعبة التخفي، عابسين وصامتين، لكأن الرمل والريح والصخر
في “سيناء”، أنساهما حاسة الكلام، يتحركان بآلية وبلا انفعال، وهما
يحملان عن زميليهما الجديدان مخلتيهما الثقيلتين، أي وعائي القماش المكدسين باللبس
الميري، ثم يصعد الأربعة جنود التبة بونى وهمود.
نقطة
المراقبة الجوية بالنظر بدت شبحية الطراز، تحتضنها تبة بلا حجاب، وبلا ظلال. ومن
داخل العربة، لم يُغادر الضابط “خميس”. ولكن العريف
“”محمود”” هبط منها، وانهمك في ملء خزان من الصاج الحديدي
الملاصق لسفح التبة بالمياه. ثم عاودنا الرحيل، بعدما نفثت العربة من مؤخرتها عدة
دفعات من الدخان الأسود، مودعة المدق الرملي، وزاحفة ببطء بين كثبان الرمال
الشاخصة نحونا بدهشة، ورحت أفكر (عجيب أن يغادر زميليا دون تسليم، أو سلام،
يبتلعهما فضاء فاغر فاه، ومُستعد لابتلاع أحياء الكوكب بلا عناء.). ومن العجيب
كذلك. أني منذ أيام قليلة كنت أتوق الفرار من العاصمة المكتظة بشرانق الكآبة.
وهأنذا، يكاد أن يقتلني هذا الفراغ المتوحش.
من العاصمة
المكتظة بشرانق الكآبة. وهأنذا، يكاد أن يقتلني هذا الفراغ المتوحش.
عاودت
الشمس الشروق، وانحدرت العربة، ثم هدأت من سيرها اللاهث، واخترق صدى نفيرها هدئة
الأرجاء، حتى توقفت على الطريق الأسفلتي الغائم، في حين بزغ اثنين من جنود نقطة
المراقبة الثالثة، وهما يلوحان بأيديهما من عِل، وينثران ضجة غير معهودة، ممزوجة
بصوت الضابط “خميس”، يدعو زميليا المتبقيين للهبوط من
العربة. أحدهما المشاكس، وهو لقب كنت قد أطلقته عليه في مركز التدريب، لكثرة
مشاحناته. ومن الغريب أن يغادر زميليا، كسابقيهما، دون تسليم أو سلام، في الوقت
الذي هبط فيه جندي واحد من النقطة، يقابل زميليه بالقرب من منتصف المسافة على
المدق الصخري الصاعد بلولبة، وقد لاحظت بأنه لم يحمل عن زميليه أي شئ، وبفتور
دعانا للصعود، فتجاهلنا دعوته. وحالما انتهى العريف “”محمود””
من ضخ مياه الفنطاس في صهريج النقطة، تابعت العربة طريقها، وقد بدا المشه، وكأن
أحداً يقوده بعصاه وسط زخات مطر لا يبلل أحداً، مطر صامت، بطئ، لم يصدني عن النظر
البسيط للوديان والوهاد المبطوحة تحت الجبال، والمبدورة بالشجر القزمي، بأوراقه
العجفاء، وهى تهتز بدلال عجائز متصابيات، تداعب الخيام المصفرة بصفرة الكفن، والتي
تغمرها أحصنة الضوء الباهت، المتناثر بلا نظام، وهو يتلاحم مع مدقات حجرية،
تنحدر إلى وادٍ يمتد بمسالك وعرة، وكثبان رملية متجمدة، تقارب على الإبتئاس من طول
فترة غروب شمس “سيناء” التي تجيد لعبة الكر والفر، في مغازلة صريحة
لعصافير تصأصأ مرحبة، صوتها قوي، غير ملائم لجسدها، وكأنها وجدت قوة أكبر عندما
رأتنا، وأغنام ترعي، تهتز رؤوسها بنمنمة، ثم تعود للأكل من ورق الشجر القزمي،
كأنها اطمأنت إلينا، ولتلك الغزالة التي تسابق الريح، وكأن صياداً يطاردها، مثلما
كان يطارد غزالة “سيف بن ذي يزن”.. حينما كان رضيعَّا، لما رمته أمه في
وادٍ مقفر، فمرت ملكة من ملوك الجان، فرأت الطفل، فنزلت محبته في قلبها، وعندما عادت
الجنية إلى زوجها الملك الأبيض، ملك الجن في جبال القمر ومنابع النيل، لامها بشدة،
لتركها الطفل، إذ أنه لم يُرزق إلا بفتاة واحدة إسمها “عاقص”. فعادت
ملكة الجان إلى مكان الطفل، فلم تجده، إذ رأته أول مرة، وهى لا تدري أن الطفل
بدلاً من أن يقع فريسة لحيوان جائع، وقع تحت رحمة غزالة هاربة من وجه صياد استطاع
أن يأسر أولادها في غيابها، وكمن في مرقدها ينتظر عودتها إليهم ليقضي عليها،
ويحملها مع أولادها، ولأن الغزالة كانت مزدهرة الأمومة، فقد راحت تحنو على الطفل،
وأسرعت نحوه تضمه، وتدور به، والصياد يرقبها من بعيد، وقد أخذته الدهشة مما يرى،
إلى أن لاحظ حركة الطفل، وسمع صوت صراخه الخافت، فاقترب على حذر، وقد دبت في نفسه
الخشية على الطفل من الغزالة البرية، إلا أنه تفاجأ بالغزالة تدور حول الطفل، حتى
وضعت ثديها في فمه، فصمت صراخ الطفل، وراح يمتص لبن الغزالة في شراهة، وكأنما
أمدته بماء الحياة الذي حرمته منه أمه، ولم يجد الصياد في نفسه، أن يقتل الغزالة،
كما لم يجد في نفسه، أن يحرمها من صغارها، فأطلق الصغار من قيودها، وحالما رأتهم
الغزالة، أسرعت نحوهم، فتقدم الصياد نحو الطفل الذي كان يصدر أصواتاً هانئة،
ويبتسم في براءة واطمئنان، وعندئذ، رأى الصياد عقد جوهر، وصُرة مال، بجوار الطفل،
ولاحظ ملابسه الفاخرة، فعرف أن وراء هذا الطفل سر، وأنه ليس طفلاً لواحدة من نساء
الفقراء، قرها عبء إطعامه، فرمت به، وإنما وراءه سر عظيم، لا يجلوه إلا الملك
الأبيض، فحمل الطفل إليه، وعندما وجدت ملكة الجان الطفل في قصر الملك الأبيض،
تربصت بالقصر، حتى رأت حاضنة الطفل تذهب به إلى “المزيرة”، لتملأ منها
ما يشربه، فانتزعته منها، وهى تقول “إعطني الطفل، فهو سيتربى عندي حتى يكبر،
ويصبح له من العمر ثلاثة أعوام”. وبالفعل. بعد مرور السنوات المحددة، أعادته
ملكة الجان مرة أخرى إلى “المزيرة”، حيث أخذته أول مرة من الحاضنة، ومن
يومها، هاهو الرمل يتحجَر في بعض الأماك بسيناءن، ليصبح صخوراً بيضاء بعد ذلك،
وكأن أحداً قد حقنها بالضياء، حيث لا شئ يهب، ولا شئ يحكي، حتى الأشجار قصيرة
الجذور بدت مفرغة من الحياة. ولكن. ما هذا؟. وأين نحن؟. بل إلى أين يأخذنا هذا
المكان الكئيب؟.
من أجواء روايتي القادمة “نقطة 14 مراقبة“